التطرف المتناقل


استغلال المناسبات لاستنباط أحكامها التشريعية أمر طبيعي، وهي استفزاز للعقول، فترتيب بعض مصادر الفقه على مناهج خاصة غيبها منها، ونجدها في بحوث أثارتها الأحداث، والسير على مناهج علمية لأهل الصناعة محمود، إعمالاً لـ"الحاجة أم الاختراع"، أو"الاختراع وليد الحاجة"، أو"عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة"، وثراء الفهم المتشعب المبني على قواعد أصولية وفقهية ومقاصدية سبب اختلاف مواقف وأحكام أهل العلم في تناولها، لكنْ سَلُّ السيوف المعنوية واللفظية أثناء التفكير والتأصيل والاستدلال غير مألوف، فتتحول المسائل إلى ساحات معارك، ينتقل خلالها التطرف من جهة إلى أخرى، والمؤسف أن جهات معتدلة تُسْتَدْرَجُ إليه أثناء حوارها مع غيرها، فيصبح حلقة دائرية متواصلة الخرز، مظاهرها في رأيي هي:
1/كشف ثغراتنا الاجتماعية لغيرنا، ولا يقال إنهم كذلك يختلفون، لأن خلافاتهم تنويم لنا، وفي حالات كثيرة يتم احتواؤها بسرعة.
2/التطاول المتناقل، ففي الوقت الذي نسمع من ينبه إلى خطره يمارسه بشكل آخر.
3/تقديم قول المنصور ولو كان أرعنا، على دليل الآخر ولو كان ورعا.
4/التداخل بين المؤهل وغيره، وهذا له سوابق تقصير واستغلال سياسي قُطْرِيٌّ، وإثخان متبادل لجراح قامات العلم.
5/تجنب الاستماع للآخر، خشية الوقوع في الاعتراف به كحاجز نفسي مرفوض منطلٍ بالطابع السياسي.
وفي تقديري تعود أهم الأسباب إلى ما يلي:
1/دافع غامض جرَّأ دهماء كل الأطراف.
2/التناقض بين التزام المذاهب، والتنقل بينها بغير مسوغات، جرَّأ غير أهل العلم على المسائل.
3/الجهل بالمفاهيم والقواعد والمصطلحات.
4/توقع مصالح ومقاصد موهومة، يكذبها الميدان.
5/ترسب الحواجز النفسية بعد الخلاف، منعت محاولات التقارب ولو بالنقاش.
6/تبعية سياسية سلطوية، جرَّأت المستقلين.
7/استقواء بعض أهل العلم بكثرة الأنصار دون خشية العواقب على العلم.
8/تمرد التقادم على محاولات الإصلاح.
إن كثيرا من متصدري الفتوى لا يفرقون بين كونها اجتهادًا، ونقلاً، فيصبح الناقل وكأنه جاء بشيء جديد، وهو يتغافل عن مجرد اغتراف من القديم فقط، المجمع والمختلف عليه.
إن للفتوى رحمة قبل التشديد أوالتشاتم أوالإلزام أوالحرب الأهلية الفكرية، وقديما قال علماؤنا، "الفقه الرخصة، أما التشديد فيعرفه كل الناس".
إن معالجة الطفرات العلمية لا يتوجه بتنبيه يصطبغ بطابع الإرهاب الفكري اللفظي، لأنه يزيد الطرف الآخر حنقا، لحقه في العناية بكرامته، ولذلك لا يعجبني بعض المؤهلين للعلم حينما يطرقون رؤوس السامعين، ويُسَمِّلون أعين القارئين بأسواط منفرة عوض احتوائهم، لذلك أرى أدوية الداء فيما يلي:
1/عقد ندوات فكرية فقهية جامعة، ببحوث علمية مستقلة للوصول إلى تخريجات فقهية صحيحة تحقق الهدوء الفكري والمعنوي والنفسي والبيني، بآداب العلماء لا بتباري السفهاء، لتفويت الفرصة على المصطادين في المياه العكرة، واستلال أكبر الأوراق الممكنة من أيديهم، والاحتواء البيني بالاستماع المتبادل، بعمق العلم والاستدلال، والتوافق دون التناقض في التمذهب، وبيان أوجه المصالح الشرعية ومقاصدها في التحول بمسألة من المذهب المعتمد إلى غيره مع بيان موافقة أومخالفة القواعد المعتمدة.
2/التجرد عن السلطة والأتباع والتبعية مهما كانت، لأن المسألة متعلقة بالعلم.
3/نفض اليد من الحواجز النفسية، انتصارا للعلم والحق والصواب، لا للمذهب ولا للجهة ولا للسلطة.
4/تنمية الاهتمام بقضايا الأمة وحفظها من التفتت بسبب الفروع.
5/اتفاق كل الأطراف على صرف عوامهم عما يجهلون فقهه ومآخذه وأصوله ومقاصده.
6/الموازاة بين التدوين في المواقع والاندماج في الواقع.
لنصل إلى التقليل من تجاذبات غير مبررة عشية كل سرور وفرح، تستحيل ثلمًا للقلوب، وقطعًا للوصل، وخدشًا للود، لنقترب من الفهم العميق تدريجيا، وتقديم الحب في الله والفضل بيننا على كل جديد مفرق ولو كان علما.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم