طوفان الأقصى والاختلاف القيمي


نشرتُ يوم الثلاثاء 15 فيفري 2022م الموافق لـ 14 رجب 1443هـ مقالا تحت عنوان "القيم بين الفهم والإفهام"، شرحت فيه بالتفصيل حقيقة القيم، والمسلك الصحيح لفهمها، ووضحت الاختلاف في اعتبارها، وترتيبها في إطار الأولويات.
والواقع المعاصر يدلل على ما سبق، بآثار الاختلاف القيمي بين الأفراد، والأسر، والمجتمعات كأقوام وبيئات وعشائر، والدول كأقطار أوأمم، يظهر في الاحتكاكات المباشرة، بين أفراد الأسرة، وأعوان المؤسسات المختلفة، والاتجاهات إسلامية، قومية، علمانية، مسلمة وغير مسلمة، لأن التباعد بين هذه الكيانات لا يتيح الكشف عن القيم المعتمدة لديها، ولا معرفة نتائج هذا الاعتماد توافقا أواختلافا، وإذا كانت نتائج التوافق محسومة ذهنيا وعلميا وفكريا أثناء الممارسة الميدانية في البيت والشارع والسوق والمؤسسة، التي تظهر سلاسة في تسيير الشؤون المختلفة إذا كان اللقاء جماعيا فإن الملفت للانتباه هو الاختلاف المؤثر واقعيا.
لأن فهمها السطحي أوالعميق مقتصر على الطبقة المثقفة في أي مستوى، وهؤلاء يُفَعِّلونها تطبيقيا عن دراية، فيرجعون كل السلوكات الفرعية إليها موافقة بالاعتماد، أومخالفة بالاعتراض والإعراض، إذ تعتبر كالقواعد الكلية عندهم، يبنون عليها كل المواقف والقرارات والإجراءات والمفاوضات السياسية والتجارية والصناعية وغيرها في تحكيم واضح، تماما مثل المذاهب الفقهية التي يعتمد أتباعها قواعدها، ببناء الفروع وقبول أورد الاستدلالات عليها.
فيحدث تعسير المدافعات البينية في حالة الاختلافات العميقة فيها، وهنا يمكن الإشارة إلى أن تقنية التخالف والمحادثات تكون عن علم لا عن هوى، وهذا قد يصعب التوصل إلى الحلول المطلوبة بسبب تمسك كل طرف بقيمه كأساس التعامل مع الآخرين، عكس حالة التوافق التي تجعل الحوارات المختلفة حول تفاصيل وجزئيات يمكن التنازل البيني عنها، أما التطبيقات الميدانية على المستويات الدنيا فإن الاختلاف القيمي يُحدث فوضى اجتماعية في اتجاهات متعاكسة، سواء من المثقفين العالمين بقيمهم أوالعوام الحاملين لها عمقا لا فهما، يتعاملون بها هوًى لا علما.
وإذا كان هذا لا يظهر كثيرا في المحيط الذي يسيطر عليه رب الأسرة، أورئيس الشركة، أومدير المؤسسة، بفرض قيمهم على مرؤوسيهم، عواما أومثقفين، لبسط الانضباط وتجنب الانزلاقات المحتملة، فإنه يظهر بجلاء في المناطق الحرة، ولأن العامي، والحامل لقيم فاسدة، له طبيعة غليظة في التعامل، فحامل القيم الصالحة ينحاز إلى الهامش تجنبا لمستويات سفيهة، والقليل من يتجرأ على الإنكار ثم التربية والتعليم الشارِعِيَيْنِ ولو بلباقة تحقق شيئا من المطلوب في التغيير وتنجي من منقلب سيِّء، عملا بقاعدة تأجيل النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر منه.
ويظهر أثر الاختلاف القيمي على المستوى الدولي، فمشكلة احتلال فلسطين لم تجد احتضانا إسلاميا عموما وعربيا خصوصا، ولم تلق المقاومة الباسلة تجاوبا كاملا من الحكومات القابضة على القضية، ولم ترَ ضغطا على المحتل، ولا تقويضا لأركانه، بسبب الاختلاف القيمي بينها، وعلى سبيل المثال تبلغ فلسطين والمسجد الأقصى عند الإسلاميين والمقاومة قيمة المركزية الإسلامية المقدسة، لكن ليست على الخط نفسه مع حكوماتهم، عكس الحلفاء الغربيين المتوافقين في بعض القيم المتعلقة بها، فيجدون توافقا سلسا لأغلب التفاصيل والجزئيات المتناغمة بينهم.
ولذلك يغلب على ظني أن مَرَدَّ ما سبق تقصير المؤسسات التعليمية والتربوية والتثقيفية والدينية في بسط مسألة القيم وشرحها جيدا، ولو بإسقاطٍ تطبيقي على الجزئيات الاجتماعية كالأسر والأسواق.
لذلك عليها التدارك السريع، لأن الوقت لن يفوت إلا بشروق الشمس من مغربها، لإفهام القيم، وأن لكل الكيانات قيمًا ولو كانت غير مسلمة، تضبط مناهج حياتها، والإقناع بتبني القيم الإسلامية، ليحدث الانسجام وينجو المجتمع من الاختلاف القيمي وآثاره.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم