طوفان الأقصى وشهادة الواقع


كانت حركية التاريخ في القديم ثقيلة، تطرأ الحوادث، ويُنْسَأُ علمُ وقائعها، يموت قبله فاعلون وشهود، فلا يصلُ الأجيالَ منه إلا الممكن، باستثناء سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتراجم أصحابه، ونصوص القرآن والسنة، فضمن عِلْمَهَا الإسنادُ، بحبل متين يقرِّبُ الأجيال، أما حبل غيرها فهيِّن قد يباعد بينها، لذلك استطاع كل مسلم التعرف على تاريخ الرجال بالإسناد، تعديلا أوجرحا، ولم يتأخر الحكم على ثبوت آي القرآن، والأحاديث عن زمنهما.
فأدى الواقع الشهادة للأمم والأفراد أوعليهم بسرعة، أما تاريخ القرون الأخرى فتباين، فَأُخْبِرَتْ الأجيال ببطء، ولم تتم الشهادة إلا بعد رحيل كلِّ أومعظم الفاعلين، فيحرم الأمين من المكافأة، وينجو الخائن من المعاقبة، وتتناءى العبرة، فتُكَرَّرُ الأخطاء لتأخر الشهادة.
أما الآن فالشهادة حاضرة في المحكمة الإنسانية للإدلاء بين غدوة ورَوْحَةِ الحادث، بسبب التطور الرهيب لوسائل الاتصال بالصورة والصوت والقلم، ومَدِّها بحاجتها من التحديث بلا تباعد لحظي مانع، وللتهيئة المخابراتية وأضدادها، فلم تسلم المواقف من الكشف والفضح والنقد والتوثيق والتخوين.
وإن أدلى التاريخ شهادته البعيدة لأمتنا وفلسطين خصوصا على الزعماء الصوريين المسلمين، بتسليمها للمحتل والغرب المساند، فإنها تعكر علينا صرامة الحكم على أحفادهم بحكم "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ".
لكن من حكمة الله لآخر الزمان، أن وَضُحَ المشهد وانكشفت الجبهة، والحكم لمواقف أصحابها الأحياء أَوْعليهم أصبح متاحا بسرعة، لمكافأتهم أوعقابهم فوق الأرض قبل العَرض.
ولأن الكثير أدركوا هذه الحقيقة، أصبحوا يبذلون وسع الخبث للتعمية عن أمارات الأحداث إن تيقنوا ضررها الإشهادي عليهم، بالاستغفال أوالاغتيال، كما أمر جورج بوش الأب بالقبض على نورييغا، وساركوزي بقتل القذافي.
نحن الآن أمام مشهد قرآني قبل الآخرة "يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ".
لا تتنكر شهادة الواقع لصالح، ولا يفلت منها خائن، لتدوسه الأقدام والأقلام والأفلام، فالناس شهداء الله في أرضه.
لن تُطْمَسَ شهادة الواقع للمرابطين على ثغور المسجد الأقصى المبارك، ولجهادهم، وللأرضِ رضيعةِ دمائهم الطاهرة.
إنْ سبقَ دَفْنُ الفاعل في القديم تاريخَه، فشهادة الواقع له أوعليه متاحة بالاسم واللقب والمكان قبل تكفينه ودفنه، وجعل الله لنا كل شيء سُخْرِيًّا لنُمَيِّزَ الصديق من الخصم قبلهما.
ولن يُقْدَرَ على مواراة شهادة الواقع لأنها واضحة كالشمس في رابعة النهار على خونة القضية الإسلامية المركزية القدسية، وخذلانها، وإسلامها للأعداء.
إن قال أسلافنا "التاريخ لا يرحم"، فالآن نقول "شهادة الواقع لا ترحم"
إن شهد الوحي الرباني الواقعي على بني قريظة، فإن الله أنعم على الأمة المسلمة بالتعرف السريع وبدون تدرج، على عميل المحتل بالعتاد والرُّكَبِ، استقبل توابيت أبناء بلده المقتولين بأزندة المجاهدين، مغررا بذويهم.
وعلى من تَلَهَّثَ قلبه بأمنية القضاء على المجاهدين ليرضي العدو بضم غزة إلى سلطته.
وعلى من استأنف تفعيل العقود التجارية معه، وأبناء دِينِهِ يجوعون.
وعلى المراوغ برصاصات على أعمدة وتماثيل، وأفرغ محلات ليقصفها العدو، لنيل المصداقية الزائلة، باستغفال المسلمين.
وعلى المناور في المحافل سترًا لعجزه.
وعلى مخَرِّصِ لسانِه والمستكين كالنعامة في الحرب، والأسد في الجوار.
وعلى مانعِ الدعاءِ، وحَمْلِ الوشاحِ، والهتافِ بالشعار، وكان يخادع بالبكاء عند بيت الله الحرام.
وعلى مشَدِّدِ الحصار على المجاهدين، والشهداء، والمرضى، والجوعى، والعريانين، ومغلق المعابر، تعاونا مع الاحتلال عليهم، ومجَهِّزِ الخيام تمهيدا لجريمة التهجير.
معاشر السلاطين والملوك والأمراء وأصحاب السيادة والمعالي، إن الشهادة الواقعية الآن لا تحتاج إلى نصب، ولا إسناد، ولا بحوث، فالإدلاء جاهز، بالصحيفة، والقناة، والموقع، والفيديو، فسارعوا إلى إنقاذ أمتكم قبل أن تحيلها شهادة الواقع إلى علقم إنساني.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم