طوفان الأقصى وديونه علينا


من شيم الأخلاق، والشهامة، واللباقة، وصدق الوعد، أن من سُدِّدَ عنه ثمن شراء، أوسابق دَيْنٍ، يسارع في التسديد حين تلوح بادرة سعة يشتد لها بحسن القضاء، تمامًا أوتقسيطًا، بحفظ وُدِّ المتفضِّلِ، مع صدق الحرص وإلاَّ أصبح إخلافًا للوعد، وكذبًا يتصدر خصال النفاق الملجئة إلى التَّنَكُّرِ للكريم، فالإكرام أَسْرٌ، وإِلاَّ استحالَ خيانةً للإحسان.
والحُرُّ الأَبِيُّ ماديًا ومعنويًّا سبَّاقٌ إلى المواقف المسندة، ومشاركٌ في دفع الأثمان لكي لا يكون لأحد عليه مِنَّةٌ ولا أذى.
هذا ما ينطبق الآن بالترجمة حروفا، ومعانٍ على علاقتنا بإخواننا الفلسطينيين، المرابطين على تخوم مسجدنا الأقصى، وقدسنا المحرمة وما بارك الله حولهما.
إن كلَّ شبرِ من أرضٍ ونسمةِ عِرضٍ، هي ملك لنا، ونحن مدينون لها، وفلسطين بلاد الحرم الثالث، الصلاة فيه بخمسمئة صلاة في غيره، ليست خاصة بقاطنيها فقط، رغم أن الله تعالى اصطفاهم لحراستها والرباط بها، إنما هي أرضنا، والواجب نحوها يتوهج سهمه نحو كل قطر فيه مسلم يذكر الله، رحمة لمن أجاب النداء، وابتلاء لمن انتظر، وعقابا لمن أبى.
يوم كان للرجولة معنى، وللفحولة قيمة، وللمقدسات حرمة، لم ينظر صلاح الدين إلى بيت المقدس بالعين الكردية، ولا الخلافة الزنكية، وإنما بعينٍ راعيةٍ، تخشى ملامة الله، وعتابه يوم يقوم الأشهاد، فلم يفرط في ذرة تراب من الأرض الإسلامية ولو سقاها بدماء قادمة تنضح من كل نبع، فقام عليها حتى حررها من الأيادي الصليبية المجرمة الحاقدة، رغم عدله ورحمته بالأسرى والثكالى واليتامى منهم.
ويوم كان للإيمان روحه وفتوته القوية الخلاقة الأهابة نحو الشهادة، زحف شباب الإخوان المسلمين نحو فلسطين، بالآلاف، راجلين وراكبين، ولقنوا المحتل دروسا في الإقدام والشجاعة وكلفوه خسائر فادحة في مستهل حرب 1948م، لولا مؤامرة وقف القتال الأممية والعربية.
إن الشعوب المسلمة المكبلة بأغلال الحدود، وربض الطائرات ورسوِّ البواخر، يغمرها الخجل من العجز، وغير المسلمة فيها خير ينهض مستنكرا الإجرام والإبادة والتهجير والتجويع.
لكن الدائرة لم تُقْضَ بعدُ، لترجيح الإنقاذ على الركون إلى الاعتبارات السياسية والديبلوماسية لتضييع أوقات إضافية.
صحيح أن إخواننا المرابطين على الثغور يبذلون الوسع في سدِّها والذَّبِّ عنها، مستقبلين بصدورهم وضعف أسلحتهم نيابة عنا أخطر وأبشع مجرم عرفه العالم الحديث، يسترون ضعف حيلة الشعوب بظهورهم الباسلة، فاضحين الأنظمة العربية والإسلامية المختلفة، ومُعَرِّينَ البعبع الموهوم، بدليل نديتهم له.
لو كان إيمان العالم الإسلامي وأسلحته معهم لخرج رفقة مسانديه الغربيين قبل أن يقوم سلطان من مقامه، لا قبل أن يرتد إليه طرفه.
لكن من سوء الأخلاق، وخبث الطوايا، وجحد المعروف، وإهدار الكرامة، ومكر الليالي، تجاهُلُ التضحيات الجسام التي تروي بدمائها الطاهرة، وأرواحها الزكية لشراء الجنة ظمأ غراس فلسطين.
لأن كل ما يقدمه أهلنا هناك دَيْنٌ علينا، يثقل كواهلنا، شئنا أم أبينا، آجلا أم عاجلا.
إن نخوتهم، واحتياجهم، وجوعهم، وعريهم، وعراءهم، وأسراهم، دَيْنٌ على عواتقنا، يتحتم علينا سداده، وإما "هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم"، أوأن نكون كمن قيل فيه"من دفع عنك أفقرك"، وليس لأحد ادعاء التكرم، لأن الإكرام يتقدم ولا يتأخر.
أنادي بإخلاص أخوي صادق كل حكامنا، والمحيطين بالطوق، للإسراع في الوكالة عن شعوبهم عند الله، بسداد الديون الباهضة، ولا تغرنهم المكانات والحظوات، والمرافعات في المحافل الدولية المنوِّمَة المخدِّرَة، وإلا فإن احتلال مكة والمدينة على مرمى حجر.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم