طوفان الأقصى بين الشرف والعلف


أرسل زعيم قريش أبو سفيان بن حرب إليهم قبيل بدر ليمكثوا في مكة بعد إنجائه قافلته بتحويل مسارها عن عيون المسلمين، فانتفض أبوجهل ومن معه وقالوا: "نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها"، وهذه نهاية رجائه، أما العصبة المؤمنة المجاهدة التي تربت على يديْ النبي صلى الله عليه وسلم الشريفتين فكان منتهى رسالتها يمتد إلى رعاية شرف الأمة، وقبل بدء المعركة صعد النبي صلى الله عليه وسلم ربوة داعيًا، وبَيَّنَ ذلك بقوله:"اللهم إن تهزم هذه الطائفة فلن تعبد في الأرض".
إنه يوم الفرقان بين علفِ الشرك، وشرفِ التوحيد، وتعبيدِ الناس لله، في استبصار آفاقي رسالي عميق يتسامى عن ضيق نهم الجانب الحيواني من الإنسان.
من يطلب الحياة وغرائزها، ويُضَحِّي لها فلمقابل أرضي يثاقل له، وإذا رأى سرابًا وهميًا بعيدَ المنال تَوَلَّى، عكس من يطلب أحد أمرين، الحياة المنصورة بثوابها وكرامة العيش فيها، أوالموت دونها بشرف الكبار، وإذا ضَحَّى فلمعراج روحي سماوي باسق في ملكوت السماوات والأرض، مستهجنٍ بالغرر الأرضي ولو تزيَّنَ، لأنه متخفف عنه غير متثاقل به.
فتختلف آثار الاعتقادين والطبيعتين والسلوكين، من مقبل على الدنيا في مظنة السلامة، طلبا للخلود، واستزادةً من الشراهة المادية، ومن مقبل على الشهادة في مئنة خلودٍ أخرويٍّ، ويقين إيمانِيٍّ، وابتغاءٍ صادقٍ، أومتحرفٍ لقتال أومتحيزٍ إلى فئة، ومكتفٍ عن الشبع المادي بالعفاف الروحي.
ومنها يظهر المواطن الذي تتواجد أطماعه في قلب الوطن، ينعم بحقوق المواطنة ولو قصرت همته عن واجباته، والوطني الذي يتواجد شرف وطنه في قلبه، همته حريصة على واجباته أكثر من حقوقه، فالأول مبتغٍ علفًا، والثاني مبتغٍ شرفًا.
ولذلك يرى الناس كثيرا ممن يشغفون بعلفهم ولو اكفهرَّت الدنيا على غيرهم، ومن يتألمون شرفا لفاقة، عند أيتام ذوي مقربة، أومساكين ذوي متربة، ومن يعلفون بالمشوي والمقلي، يسيل دسمه على صدورهم، وغيرهم يتشرفون على الثغور بالشهادة.
إن من جعلوا العلف أكبر همهم ومبلغ علمهم لا يربون عن التحليق حول المشتهى من الجُزُرِ المسلوقة، بنشوة مطربة، خَمَّرَتْهُمْ عن أشراف مُغَيَّبِينَ في الغياهب.
إذا كانت الدهاليز المختلفة عند الأبواب العالية أخفت معادلة تدافع الشرف والعلف، فإن طوفان الأقصى عَرَّاهَا، ونبش عن جُبِّهَا، فخرجت مُجْدَثَةً من أنفاق غزة العزة، وأبانت عن فتية آمنوا بربهم، تشبثوا بالشرف العالي، فساقوا الهدي الغالي، ينحر منه بين زمجرة دبابة، وهدير طائرة، وهلع رصاصة، يدافعونها بقذائف الياسين وشواظ، يتجاسر حاملُها على مسافةَ الصفر "ومِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ"
فتية حجزوا مقاعد الشرف مرابطين بالمسجد الأقصى، متبارين كل يوم مع عدوان الاحتلال، في مقابلة نصر أواستشهاد.
وفضحت قوما أغرى بُعْدُ المسافة اطمئنانهم، واستدرج جبنهم ولو عن جهورة خطبهم، أومداد كلماتهم، أوخطوط أقلامهم، أوحظوة مكاناتهم، أومطابع صحائفهم، إنقاذا للشرف أوبعضه لحفظ ماء الوجوه، ودموع العيون، ألمًا وخجلا وحياءً وعارًا مُسْتَشْعَرًا، لأن تخمة العلف أعمت بصائرهم عن الشرف، فهم يصومون ليعلفوا، وأولو النُّهَى يلاحق نهارهم ليلهم في خِمَاصٍ اضطراريٍّ متواصل، لأنهم انتصبوا يحرسون الشرف، ولو أرادوا العلف لكانت لهم المكانات بالخيانات في هنيهات، لكنهم تعالوا عن طبيعة الجثث المتحركة، إلى أحياء شهيدة، تَقُضُّ مضاجع الخائنين الخانعين، الذين قال لهم الناس إن الشرفاء على أبواب الجنة يتزاحمون، فقالوا بل نحن قوم بالعلف من الهمة محرومون، وإن أنتم إلا قوم بالشرف تتطهرون، فلا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم