"أنا أعلم" بين الغلو والجحود


للبشر فعل، ثم ردُّ فعل ناقد في الغالب، يستنهض التبريرَ أوالتمنُّع على أساس "أنا أعلم بما أفعل".
والفعل وحيٌ أوغيره، فالوحي معصوم، أحكامُه مُلْزِمَةٌ، أمرًا ونهيًا، ولو جهلت الحكمة أوالمقصد، لقطعية المنفعة فيه.
سألتْ الملائكة عن سِرِّ خلق البشر، فأجابهم الله بقوله: "إني أعلم ما لا تعلمون"، فَسَلَّمَتْ بحتميةٍ لله، فهو يعلم ما يقول ويفعل، وما يأمر وينهى، ليقين العصمة الربانية، وليس لأحد الاعتراض ولا القدرة على بيان العكس، "لَا يُسَألُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسَألُونَ"23/الأنبياء.
ويصدق على رسوله صلى الله عليه وسلم فيما تعلق بالوحي، مع كشف نصوص القرآن والسنة عن بعض الأسرار والحكم والمقاصد والدواعي، لصياغتها كقواعد عامة يقاس عليها أثناء الاجتهاد.
أما اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تنظر بِعَيْنِ "أنا أعلم"، بل نزل في إجراءات كثيرة عند اعتراضات أواستشارات أواقتراحات أصحابه، لتعليمنا عدم عصمة غير النبي فيما فارق الوحي، كتدخل الحباب بن المنذر رضي الله عنه في معسكر المسلمين قبيل غزوة بدر، وقَبول اقتراحه، أوتحفظ عمر رضي الله عنه على سَوْقِ أسرى بدر إلى المدينة باجتهاد عسكري، فأَيَّدَ الوحي رأيه.
كل ذلك جنَّبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خنق العقول، بل شاور الناس في اجتهاداته.
"أنا أعلم" سجن للعقل في غلوٍّ يُنَزِّهُ غير المعصوم، يفوح بِكِيرِ الاستعباد، يأسن به معتاد التطبيع مع الاستبداد، الفاقد للحجة، الرافض للتعاون على البر والتقوى.
ليس من حق أحد رفع سيف "أنا أعلم"، ولا الاستقواء بها، أوْدَعوها فإنها مأمورة، ولا التدثر بما يسمى "واجب التحفظ" في وجوه المناقشين والمحاورين والناقدين موافقةً أومخالفةً، ولو كشفَ استمدادَهُ واستدلالَه، فرارا من النقد، لتكريس "أنا أعلم"، فالقداسة للوحي، الذي قد توافقه التطبيقات وقد تنحرف عنه بسبب أخطاء ومنزلقات المفاهيم، ورعونة الواقع.
ولا من حق إجراءات زعماء التنظيمات والأحزاب والدول التي لا تعدو اجتهادا إن احترم التـفكير والرأي.
ولا من حق جهاد إخواننا الغَزَّاويين، الذين أصْرَرْتُ على تأييدهم وإعانتهم بما نقدر، ثم لنا التحليل بعد وضع الحرب أوزارها، لأنهم رغم تسبيل أنفسهم لله ليسوا منزهين عن الحوار المعين في المستقبل على الأقل.
ولا عصمة لقراءات عقلية للنصوص، أولبناء مفاهيم عليها قد تبتعد عن مراداتها، موجودة كثيرا وللأسف في حواشيَ وشروح كثيرة.
إن العقول ليست ملزمةً باتباع مفهوم المفهوم، لأن فهم النص ليس نصًّا يُفْهَمُ، ومن حق العالم العاقل المفكر أن يقول لفاهم الفهم "أمسك عليك فهمك، فلستَ أعقل مني"
يعجبني بعض العلماء القدامى ولو بطفرات قليلة في كتبهم ومصنفاتهم، كابن تيمية بخروجه عن جماهير الأمة في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، رغم قداسة ممنوحة للإجماع، منعت مراجعته، رغم بشرية نتاج نقاشه، قد يكون بعضه مُلْتَـفًّا حول أقوال أواختيارات، لا حولَ مفاهيم لنصوص وحيٍ معصوم.
لكن هذا التوجيه لا يتيح جحود كل نهضة قد ترفع شأن الأمة، ولو ببعض نقص، فالكمال لله وحده.
والمدعو إلى تحرير العقل في هذه المسائل أهلُ العلم والثقافة والدراية والخبرة في ميدان النقاش، لا كُلُّ ناعق لو سُلِّمَ له كتاب في أي فَنٍّ لحارت بدايته وخار وصوله إلى منتصفه بَلْهَ نهايته.
إننا بحاجة إلى تجديد ينصِّعُ الإسلام بصياغات حديثة صحيحة لقواعده وسننه الربانية الكونية المستقاة من الوحيين، لا لتذويبه في أفران تبرر مقتضيات الواقع، في ميادين وعلوم ومفاهيم كثيرة، لأن النتاج التطبيقي الاجتماعي الميداني لإملاءات قديمة خارج عصمة الوحي أماطت عن أخطاء أدبية، حَمَّلته أوزار المفاهيم البعيدة، والقداسات الموهومة.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم