في ذكرى اللغة العربية


لا أحب تحويل الأصل إلى قضية، لأن ذلك سمة المشكلات التي تطرأ على المألوفات المتجذرة.
ومنها اللغة العربية التي ينبغي التعامل معها كلسان طبيعي، وليد قرآني جامع لكل أعراق الأمة المسلمة، لا كمكتسب خارجي.
لكن الخديعة انطلت على كثير من المسلمين بطفرة حادثة عابرة غير معتادة، عوض أن يكون الجهل بها والانحراف عنها وتعويضها بغيرها هو الداء المستدعي علاجا.
عندما اختلط المسلمون ببعضهم، واحتكَّت الأعراق دينيا، تزلزل اللسان العربي، فاستبق أهله الزمان بتقعيد ضوابطه، وجنبوه الاندثار.
إن الحديث عنها ينبغي أن يُسْتَقَى من المنظور القرآني العقدي، لا من اللوثة القومية التي مزقت الجسد الإسلامي إلى عرب وعجم، ثم توسعت كالسرطان بالمجامع القومية، كجامعة الدول العربية، التي كَرَّست الفصل العنصري بين مكونات العالم الإسلامي.
ولا من الانهزام بعقدة المظلومية الدافعة إلى قفز عنصري لفرض التجاوز قسرا، شعورا بالنقص والدونية، للفارق الكبير بينها وبين العربية في الثراء والعالمية.
لقد أحالها أعداؤها إلى مشكلة دون حَلٍّ، عمدا وعدوانا، فأجَّلُوهُ بتنصيب مجامع كبرى تُرَاوِحُ مكانها كالعجلة في الوحل، وكُبِّلَتْ برؤوس جَمَّدُوا لها كل محاولة إنارة ضوئها أذهانَ الناس وتَقْوِيمَ نطقهم، كما يقضى على المقدسات باللجان.
فآل الأمر إلى التلسن بكثير من اللغات الأجنبية المُكَسَّرَةِ التي أضحت مؤرقا للمكون الإسلامي في عربيته، فلا صينت، ولا أُتْقِنَ غيرها.
تمخض عنه نماذج لهجاتية مختلفة الأشكال والخلفيات والمقاصد، منها:
1/القاصدون مسخها: ركبوا موجة التكالب الدولي الغربي عليها، لتوهين التماسك الإسلامي، والتمحور القرآني، تكونوا في محاضن فكرية غربية، فأغرقتهم دسائسها.
2/المصابون بعقدة النقص: المنبهرون بمدنيات غربية رفعها لسانها المحلي، وقواها النظام والانضباط الصارم، وجدول قيم مقدسة مختارة ومرتبة، فحسبوا ضمان الكمال الحضاري بالبعد عن العربية، والتنزه عن الاعتناء بها محادثةً وتدريسا وبحثا ونشرا، ونزل هذا السَّقَمُ إلى العوام، كالتاجر المسؤول عن ثمن سلعة يجيب العَرَبِيَّ مثله بـ treize milles، كما يقول الطبيب العربي للمريض العربي بعد انتهاء العلاج You can get out this week.
3/المكتفون بتسيير وتسريع الأعمال: حاورت في مكة المكرمة مسؤولا سعوديا عن العلاقة اللغوية بالعمال الأجانب، والتواصل معهم ببعض لهجاتهم عوض تعليمهم العربية، فبرر بحتمية تسريع الأعمال.
4/إرادة إثبات الانفتاح والتفوق: ظنا أن اكتساب اللغات الفاعلة في المجتمع الإنساني يمر عبر الدوس على اللغة الأصلية.
أخبرني شباب صوماليون بكل أسف عن ترسيم اللهجة الداخلية قبل العربية، وسلطتهم عضو في جامعة الدول العربية.
أرفض أن يُسَلِّينَا القوم بتحسير لغة قرآننا في يوم عالمي يكيلونها الألفاظ اللذيذة، والعبارات الطيبة، والقصائد الرنانة، والعبرات الجياشة، ليستغفلونا عن إبادتها تحت ركام التخلف ومساحيق التدجين، خشية نهضة قرآنها.
إن التضحية باللغة الأصلية سيقلب المنطقة إلى خليط لهجاتي يَفِلُ بريقها، ويفكك تماسك نسيجها الاجتماعي.
هذا هو حال لغة القرآن التي رُسِّمَتْ لها ذكرى تنبه إلى تدحرج موقعها لا إلى تدرجه المتسامي.
إن وضع اللغة العربية في الموقع الطبيعي يدعونا إلى:
1/طي إيهام اعتناء المجامع المختلفة بها، فكل ما نُصِّبَتْ له لجنة طواه النسيان.
2/التوسعة على تدريسها وتنميته في كل أطوار التعليم بتدرج يقترب من بلاغة ألسنة فطاحلها القدامى.
3/تحديد استعمال اللغات الأخرى في التعامل مع غيرنا.
4/تفعيلها في المدينة والإشهار والتجارة والإدارة، وتمكين العلماء والمثقفين والمفكرين من إعادة الشارع المسلم إلى لغته في مختلف المعاملات.
5/إعتاق قانون تعميم استعمالها من الأدراج المغبرة.
بهذه الخطوات وغيرها تنبري لنا صورة المجتمع العربي القرآني بالطبيعة لا بالتصنع الواهم، رغم التحديات والعقبات والعوائق الذهنية والنفسية والعرقية المواجهة، لكن الدوام يَفُلُّ الرخام.
فالعربية كغزة، يزهق أطفالها لتستخلفهم الأرحام، ويدمر عمرانها ليرفعه البناء.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم