الإنسانية وحمم الرصاص

ندب الله تعالى البشر إلى التعارف والتعايش، والمودة والرحمة.
لكن أكثرها أدار ظهره للمقاصد الربانية في سنن الله الكونية، فخابت حاجتها إلى التراحم، ووقعت التضحية بالإنسانية.
إن ما يحدث من اعتلاج حربي بين أهل الأرض ومحتلها ينذر بهدم المعالم الإنسانية، وانهيار القيم الأخرى بالتبع تدريجيا.
النظام الإسلامي رعى الإنسانية بمستويات ومعنويات راقية، ولو أثناء اصطكاك الأسلحة، كدفن جثث المشركين في بئر بدر، وكحسن معاملة الأسرى، واحترام أعراضهم ودمائهم إلى تحريرهم، وكمجاورة المسلمين أهل الكتاب، وكفرض الخليفة عمر راتبا لشيخ يهودي كان يتسول ليدفع الجزية، بعد استنزاف قوة شبابه، وعناية صلاح الدين الأيوبي بالضعفاء أثناء إجلاء النصارى من بيت المقدس، وفي صفين صلى علي رضي الله عنه على قتلى الفريقين.
إن ضغينة المحتل تعبير جديد عن هشاشة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بتجاوزه أثناء احتكاك حربي أوسياسي أوطبيعي.
عَهِدْنَا توقيف الحروب بهدنات، وفتح المعابر لتمرير الموتى والجرحى، وتبادل الأسرى، وتيسير مرور الحاجات الإنسانية.
لن نبرر ولن نغفر لسلطات العالم إحكام الحصار على المواطنين، والفتح المتأخر للمعابر، وتعسير وصول الإعانات لغزة، والسكوت على الحصار الجوي من القوى الكبرى القابضة على أطراف الأحبال.
ولا لمساهمة المنظمات الدولية في تعفن الأوضاع الإنسانية في العالم عموما وعند المسلمين خصوصا، ثم التدخل لتوحي بخبثها أن حقوق الإنسان حكر عليها.
الإسلام دين الإنسانية، لأنه منسجم فطريا معها، عكس الفلسفات المتناقضة التي لم تمنع الانتحار والأمراض العقلية، ولاستغراقه التعايش والسلم العالمي، والتكافل الاجتماعي في السراء عموما، والضراء خصوصا، رغم ذهول المسلمين عنه.
أعجبني موقف مجاهد منع رفيقه يوم 07 أكتوبر 2023م من الدوس على وجه جنديٍّ محتل، قائلا له"لا لا إنه ميت" راسما لوحة إنسانية ميدانية لسمو المستوى الإسلامي في التعامل مع الإنسان ولو مات.
لكن يؤلمني تفرج الحكومات العالمية والمسلمة خاصة على الوضع وكأنه مباراة رياضية، بقنوات وأجهزة إعلامية تصور الميتين، والمجروحين، والمقطوعين، والمهدومين، مكتـفية بمجرد التنديد، غافلة عن أيلولة العقاب العدواني إليها يقينا، لأن حقيقته تقول "ليس علينا في الأميين سبيل"، ولو تعاهدوا وتعاقدوا مع غادر يستهدف المدنيين العزل.
لا نجبر الناس على التعايش إن رفضوه، ولكن ندعوهم إلى المصارعة بين الأصحاء، أما المستضعفون الذين لا يجدون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فلينـقذوا ثم يصارعوا بعد امتلاكهم أسلحة الصراع.
فلا يعقل الإعراض عن أنين المدفونين المردومين، واعتصار جوع الناجين، وانكشاف العريانين، واحتياج المرضى للفحص والدواء والمأوى، وغيرها، بمناكفات متـفاوتة، لأن الضحية أهل الأرض الواقعون تحت نيران القنابل.
لا نريد تأسيس معادلة "العداء يساوي التعسير والتعذيب والتنكيل".
نريد من حكومات العالم استمداد قواعد حقوق الإنسان من التشريع الإسلامي لأنه الأدوم والأصوب والمواكب لكل تطورات الحركات والاحتكاكات البشرية في كل زمان ومكان.
إن لم تردع المؤسسات التشريعية والقانونية العالمية المحتل إلزاميا عن استمرار خروقاته الكارثية الخطيرة لقيمة الإنسان انتقاما من عُصْبَةٍ بأسلحة بسيطة في الميدان، فإن طوفانا شعبيا سيغرق الحكومات ليقود نحو حرب عالمية ثالثة، تزهق فيها الحرمة الإنسانية بأبشع مما نراه الآن، وسيعض العالم بشعوبه وقياداته أنامل الندم على السكوت الحالي عن انتهاكات يعلم يقينا مخالفتها للأعراف الدينية والإنسانية.
أدعو الباحثين والمعجبين ببعض تشريعات الإسلام، إلى استنباط حقوق الإنسان في الإسلام وسبر أغوارها، وإدراجها ضمن بنود هذا الإعلان العالمي.
وأدعو إلى تحديث الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتطويره ليواكب المستجدات النزاعية غير المنصوص عليها فيه منذ صدوره، ولضمان حقوق إضافية للإنسانية ضد الافتراسات الحيوانية في الصور السلطوية.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم