الأشعريون في غزة.


عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ. رواه البخاري ومسلم.
الالتحامات الحربية تحكمها سنن ربانية في الكون، تصوغ قواعد لحياة البشر.
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله:(إن السنن الربانية في الكون لا تحابي أحدا، من وقف في طريقها دهسته).
التزامها نفع دنيوي وبركة ربانية، والتنكر لها مفسدة عظيمة.
تعمل كذلك في الاحتكاك بين الإيمان والكفر، والظلم والعدل، والاستكبار والاستضعاف.
منها حالة الصف الحربي والمدني، من تراصٍّ ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) 4/الصف.، أوتشتتٍ (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) 46/الأنفال، أوصبر (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِي).
الناظر إلى المدنيين والعسكريين الغَزَّاويين يستشعر حياة الأشعريين، المتصفين بمعاني النصوص السابقة.
تلاحم عجيب بين الغزاويين، رغم تهاطل قنابل وصواريخ العدو، ومعهم أطباؤهم المضحون بأوقات نومهم وأُسَرِهم دون مقابل مادي.
يهرعون بعد القصف الإجرامي إلى انتشال الجرحى والشهداء في صراع الجدران والأعمدة والأنقاض المتهاوية على المتأوهين والموتى.
يقتحمون رُكَمَ وأطلال الحطام بلا خشية من معاودته عليهم وهم عزل، بصوت ذاكرٍ لله تعالى كلٌّ بصيغةٍ في أنَّات نحو الله.
لم يدفع تدهور الأوضاع، وانهيارها، نحو النهب رغم تعرِّي متاعات البيوت والمنازل والمتاجر والمخابز والمؤسسات.
عكس الاضطرابات والاحتجاجات والمظاهرات الشعبية في دول كثيرة، حيث الهرج والمرج، وسرقة وغصب ممتلكات المؤسسات الحكومية والخاصة.
الغزاويون ينتمون إلى قبائل وأحياء مختلفة، لكن الأزمة التي تلد الهمة جعلت الكثير منهم يتجمعون في بيوت وأماكن آمنة، عوض استفراد كلِّ عائلٍ بِهَمِّ أسرته، فأذابوا أفرادهم وجماعاتهم في فرن الشخصية الفلسطينية الجامعة، بوعي راقٍ، وضمير جمعي مُسلح.
طوابير طلب الماء والخبز وغيرها تنظم بسلاسة وهدوء وتعاون وتعاذر رغم ظنِّ النفاد عند متأخري الصفوف، في تحقيق ميداني رائع للصبر، والإيمان بقضاء الله وقدره في الحصول أوغيره.
لا أظن ذلك حصل إلا بعد سنوات من الإعداد الحماسي تربية وتعليما وتكوينا، حتى أضحى الشعب الغزاوي كله مسلما حماسيا في نظري، والدليل الميداني شاهد على تمسك المدنيين بالمقاومة رغم ما لحقهم بسببها كما يصرِّحُ المُخَذِّلُونَ.
صور رائعة تلك التي ترسمها لوحات فنية آدمية مؤمنة، يجتمع فيها غزاويون للتَّحَلُّقِ حول أكلات خفيفة يتقاسمون بها لقم عيش ساخنة وباردة، يسدون بها جوعات الصغار والكبار، حاملين لواء الحديث السابق، في عطاء من لا يخشى الفقر.
إن دينية الحياة والتعبد بها تصنع العجب، لأن التكافل حين ينطلق من عبادة الله، ويقصدها، وبما شرع، يجلب التمكين.
والواقع عند العدو يعكس قوة التأثير السيء لاختلاف النفسيات والمعنويات، وانهيار الآليات المدججة الضخمة المدرعة والمصفحة أمام وسائل حربية بسيطة، دليل شاهد.
أثبتت الوقائع والنتائج صحة الاختلاف بين عقيدة صحيحة وأخرى خاطئة، فمعادلة إما النصر وإما الشهادة أقوى من معادلة إما النصر وإما الحياة.
والنصر يستوجب التفافًا حول إرادة الآخرة وودع الدنيا، لا بالإيمان والشهادة فقط، ليهون به تشارك المال والأكل فتسد الجوعات والظمآت، معه ثبات أمام شهوة الأثرة، تمهيدا للثبات أمام ميادين الوغى.
الجماعة البشرية المتراحمة منصورة، لأن صفها متماسك، وإذا قست تضعضع وانهزمت.
لو حققت شعوبنا وحكوماتنا هذه السنن، لتم النهوض المادي، والشهود الحضاري، والتوسط الأممي، والانعتاق التحرري من قديم الزمان، ولتبحبحنا بين روابي العِزِّ، لم ينقطع نفعه عنا، ولم يصبنا أذى أبدا.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم