شدة الضيق وبطر الرخاء

عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ.) رواه البخاري.
إذا تحرر الفرد من ضيق الدنيا ولم يستصحب ظروف التضرع والتوسل والقوة الروحية، جَرَّته ببريقها إلى انحلال باغتباط موهوم.
قد يصلح الابتلاء لبعض الناس لعلم الله المسبق بتفريطهم في العلاقة به إذا أقبلت عليهم الدنيا برغدها.
كانت الحركة الإسلامية تنشط سرًا، واشتدَّ عليها التضييق والمراقبة واضطرت قياداتها إلى استعمال الرموز في المواعيد والتحركات مثلما فعل مجاهدونا وشهداؤنا أيام احتلال البلدان، مع قوة محكمة في العلاقة مع الله تعالى توسلا وتضرعا، فكان الرجل لا يرى إلا ذاكرا، صادقا مخلصا، ناصرًا الإسلامَ، مع وحدة عضوية بين الأفراد، لكن ما إن انقشع ضيق السر بالتحزب علنيًا في إطار الدستور حتى دبَّ إليها داء القيادة والمناصب والمقاعد النيابية والمحلية والتنافس عليها والتهاوش المعنوي والشخصي، مثل مؤامرات الأحزاب المجردة عن المعاني الإيمانية.
إن الشعوب المضيق عليها بالاستبداد، إذا فتح لها باب الانفتاح السياسي أوالفني كما يحدث في السعودية دون وعي مسبق مارسته بهرج ومرج، وتعجرف.
احتفل الشعب السوري بالجلاء الفرنسي يوم 17 أبريل 1946م، الموافق لـ 15 جمادى الأولى 1365 هـ، تخلى فيه الكثير عن الانضباط الأخلاقي، وعوض الثبات أمام النصر، انسلخت فئات في مسيرات استعراضية بشوارع دمشق مستخدمين فتيات منتقيات، تلذذ المسؤولون بمفاتنهن بعد أن كنَّ مستورات أيام الاحتلال.
كان النساء محافظات على الأعراض، مرعوبات من الاغتصاب، فظهر مرد ذلك إلى طمس روحي أثناء الاحتلال، بدليل التخلي عن الالتزام في غمرة الاحتفال، عوض الثبات عند النصر كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، بحمد الله، والتورع عما يسخطه.
إن الاحتلال عَسُرَ عليه اختراق صفوف المسلمين، وصعبت عليه عملية الغزو الفكري، وبقي الناس عَاضِّين على قيمهم، لأنهم رأوا نفاقه أمام أعينهم، يُبدي وجه المدنية والحضارة، ويعذب ويقتل ويغتصب ويقطع الرؤوس والمذاكر ويسلخ الجلود في صور بشعة، فاستمرر أهل الأرض الأصليين خداعه، وآووا دوما إلى أوكار قيمهم.
لكن بعد الجلاء يَسَّروا له ما كان عويصا، بسبب حرية منحلَّةٍ لم تَرْعَ ثوابت الانتماء، كالكتكوت إن خرج من قوقعة البيضة ليطير مباشرة سقط.
وعوض أن تعتمد الأمة على نفسها في محو آثار الاستعمار، استعان مسؤولو جُلِّ البلدان ببعض إطاراته في مجالات كثيرة، فعاثت فسادا، وتجسست، وثَبَّتَتْ التخلف الموروث.
إن الانعتاق الذي لا يكتسب بالجهد والجهاد والمشاق والمكابدة، كالمال المكتسب بالميراث أوالوصية أوالتبرع لا تُرْعَى قيمته، وينفق بِسَفَهٍ وإسراف.
إن نشوة الانتصار على العدو كسكر المخمور، يحل ما حرم قبله، دون ضمان العودة إلى العقيدة والتشريع والقيم بعد الصحو، لأن اللذة مغرية.
وإنَّ ضعف البلدان المتحررة تعليميا وتربويا يسوقها بغباء إلى الانبهار ممن احتلها قبلُ، فيختلط عليها النفع والفساد، وتعمم مجالات التفوق، وتنقل عنه الضارّ، وسطحيات من النافع دون عمق.
إن المتحرر غير الواعي كالدابة الأليفة التي تتوجس لحركاتها داخل الإصطبل، فإذا سرّحت لترتع رأيتها تقفز وتلعب وتمرح دون حسابات ولا وجل من شجر ولا حجر.
إن يسر الحياة وسعتها أخطر من ساعة الشدة إن غفل الفرد عن التعامل معها بتدرج في التنعم.
إننا مدعوون إلى تصحيح المفاهيم الموروثة، ومنها حقيقة الحرية والانتصار، ونقل طبيعة الحياة الروحية أثناء الفقر، أوالضيق، إلى حالة الغنى، أوالفرج، صونا للاعتدال والتوازن.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم