مسالك القرضاوي على ضوء البشرية والاجتهاد.

لا أدعي استيعاب حياة الإمام القرضاوي رحمه الله، كمعاشريه، لكن لا يغمط معدنه المرئي عبر نافذة متابعات مسيرته وتراثه الضخم المورَّث للأمَّةِ.
فكان حبه شباب الصحوة الإسلامية، وحنانه عليهم، ودفاعه عنهم، وتوجيههم برفق مستجاب، مصبًا له، ومنبعًا لهم، نصع بتواضعه، واعترافه بفضل غيره، لا يرد سائلا، ولا مُسَلِّمًا محيِّيًا، ولا مستفتيا.
خروجه الرسمي من التنظيم مع بقاء تعاطفه، وسع له مجال الخطاب والاستقطاب لبث النفع بشكل واضح، ورغم ذلك ظلمه متشددون مدفوعون من وراء الأستار، استثمرت الأنظمة فيهم، لأن فهم الإسلام وتطبيقه بتوازن لا يروق لها، جلهم لم يقرأ له ولم يسمعه، بل زوروا له صورا وأخبارا، لكنه أعرض عن سفههم.
ورغم ذلك كانت الأمة أكبر همه، يخاطبها بصوت مُدوٍّ، ويجَرِّدُ لها حياته وحِلَّه وترحاله، داعية ومعلما ومساهما ومستجيبا، ولو كان شخصه محور حياته للزم بيته.
يشعر المستمع إليه، والقارىء لكتبه أنه يبلور بقوله وفتواه وخطبه مقاصد تنقدح في ذهنه بناموس جذاب إليها، ولو لم يفهمها الكثير.
تحرره من التبعية، أعانه على التقاء الآخرين به، قرأ لأكابر العلماء ولم يقلدهم، رغم تكوينه الأولي على قواعد المذهب الحنفي في أزهر مصر.
منح العقل حريته وقيمته السننية، وتجاوز الحرفيات نحو الفهم ليجلي مرونة الشريعة، وتقديسها للعقل.
استوعب المذاهب، والأفكار، والأحزاب، وخالفها وانتقدها في كليات وتفصيلات، بنظرة عالمية شاملة، كأنه على قمة جبل يبصر منها، فقه الواقع جيدا، وكيَّف إنزال الأحكام الشرعية بناء عليه.
مصطلح الاعتدال والوسطية قديم عند جمهرة العلماء، لكنه أوكىء عليه، فهو الوحيد الذي أحياه بجماله التشريعي العصري، وتأثيره في الأحكام والتصرفات والتوازنات، وضرورته للشعوب والحكام، جعله أخطر الفقهاء على الأنظمة المنحرفة، لأنها تتزود من المتطرفين في النيل من الإسلام، واعتداله لا يخدمها.
اكتسب فلسفة واضحة المعالم حول المنهجية الصحيحة للتشريع، دون اضطراب ولا تردد، يحرص على الالتفاف حول الثوابت الكلية الجامعة المتفق عليها، عكس معظم الجزئيات المتغيرات المختلف حولها إلى يوم الدين.
كل المعاني والمفردات العلمية والتشريعية المتناثرة في مظانها القديمة بدون وضوح ولا ترتيب لظروفٍ شاقَّةٍ، جمعها ونظمها بشكل فريد جالب لاهتمام الطالبين والدارسين، ومنجزي المذكرات والرسائل الأكاديمية، التي بلغ عددها التسعين، وحررها بمصطلحاتها الجديدة البسيطة المتاحة لكل عقل.
جزئيات مواقفه وتأليفه وفتاواه وخطبه وتأسيساته يعتريها الصواب والخطأ، لكن تركته المنهجية للأمة ميراث ثري يضطر إلى اقتسامه معالجو مسائل الناس، فهو مجدد العصر بلا منازع.
لم يُرْضِ حاكمًا ولا شعبًا، ولم يخشهم في الله، ولم نجد في مؤلفاته تزلفا إلا اعترافًا بصواب، أوشكرَ صاحبه، أوكسبَ وده لنصرة الإسلام، أيده تبلور نظراته الأفقية المعلومة من وراء سلوكاته الأدبية والعلمية والتشريعية.
علمه كبير، ووفاته جلل عظيم، لكن استدراجه بخبث نحو بعض القضايا العالمية التي كان لمواقفه نصيب من تذمر البعض محرج لمحبيه، ربما لانحيازه نحو الشعوب المضطهدة، أتمنى أن يقنعنا العلماء والمفكرون بتأويلها لرفع التمعض عنه.
له أخوة شديدة للشيخ الغزالي وتوافق منهجي، مع فرق في الأسلوب، بين التقريع، والرفق، قد يفيدنا في تنويع الأخذ منهما، فمريد الهدوء يتأثر بالقرضاوي، وغيره يتأثر بالغزالي.
يبتغي إظهارَ العلماء والدعاة الإسلامَ بأحسن الصور البراقة الجالبة إليه.
يستنبط من التشريع كل البدائل الجميلة، ويكره صياغة الفتاوى والأقوال بشكل يؤول إلى التنفير.
لم يعرض منهجه باستكانة، بل دافع عنه بقوة الموقن الواثق، في سبيل قيامه بالواجب نحو الأمة.
إنه إمام مجتهد مطلق، مجدد الدين في هذا العصر، حائز على شروطه، كحفظ كتاب الله، وما يتعلق به، وخبرة بالسنة، وباللغة العربية كلها، وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية، والراجح والمرجوح وضوابطهما، ومواقع الإجماعات، واجتهادات غيره، ودقة في إنزال الموازنات والأولويات على مختلف المسائل، ومعرفة بسنن الله في الخلق، وبالعلماء وطبائعهم ومآخذهم، وبالناس في العالم كله وليس في بلدٍ ضيق، وسبقٍ في كثير من المسائل المتجددة، واستقلالية تامة تحرر عصارة الاجتهاد، وغيرها من معالمه.
رحم الله العالم العلامة الإمام الدكتور الشيخ يوسف بن عبدالله بن علي القرضاوي.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم