الولادة الجديدة

إن الولادة الحقيقية للإنسان ليست خروجه جنينا من بطن أمه إلى هواء الحياة ليصرخ من اعتراض الأوكسجين، فنتيقن حياته، إنما هي المتجددة عبر الزمن، كلما أضاف إلى محيطه نفعا، فيتجدد النمو بعد سقوط، أوحادث، ولادة جديدة، وتطور الأفكار ولادة جديدة، لأنه سيشعر بشخصية جديدة بذلك التحديث، غير التي كانت قبلُ.
لم أكن أعرف بعض العلماء إلا بعد السماع بهم، فقرأت لهم، وتعرفت على شخصياتهم وآدابهم ومناهج حياتهم، فولدوا عندي وعند غيري من جديد.
عُرِفَ النبيُّ الله صلى الله عليه وسلم بعد إساءة البعض له، أوإهانة نبوته، أورسوم مسيئة، أوطعن في القرآن، فيطفو الغضب إلى السطح، وتستثار العقول نحو الفضول بالقراءة والتساؤل والبحث عنه، والكثير منهم يسلم لله تعالى، وتلك ولادة جديدة.
في كل عصر يتم التعرف على فقهاء المذاهب الأربعة وتلك ولادة جديدة.
إن الله كتب لكثير من العلماء العاملين المخلصين، شيئا من الإسرار، أوقلة الاهتمام، إلا من فرضت الظروف بروزه، لتجنيبهم الرياء، وتثبيت أفئدتهم على الإخلاص والتجرد لله، والعلم يضاعف نزعهم نحو الله تعالى.
فإذا رحلوا عن الدنيا، وأَمِنُوا شر ما سبق، تفجرت مناقبهم وطوايا حياتهم، ومناهجهم، وتركاتهم العلمية والتراثية كما تنهمر المياه على أمر قد قدر، فيقبل الناس عليها دراسة وتمحيصًا وتعرفًا وتنقيبًا، لاقتداءٍ، أوبحثٍ، أوتعلمٍ، أوإنصافٍ من بعض القاعدين على طريق الخلاف، وتلك ولادة جديدة.
والشيخ الإمام الدكتور يوسف القرضاوي ليس بدعًا منهم، رغم ذيوع صيته قبلُ لنفعه الواسع، ومساهماته، ومؤلفاته، ودروسه، وجهره بكلمة الحق في وجوه الشعوب والسلاطين وأعداء الأمة، خاصة محتل الأرض المقدسة.
إن مساحة دراسة شخصه كبيرة، كطبيعة تفاصيل عقيدته، ومنهجه تفكيرًا وتعلمًا وتعليمًا وتأليفًا، وتراثه الأدبي والفكري والتشريعي، وإستيعابه للعلوم، وإسقاطها على الواقع، والأصناف البشرية، ورحلاته ومواقفه، ومعالجاته للقضايا الشائكة الشائعة، ودوره في حل مشكلات، وإجابات على تساؤلات مستمرة متجددة، واجتهاده وحدوده، ومرتبته انتسابا، أوتمذهبا، أوإطلاقا، ومصادره، وقواعده الفقهية، وتحرره العلمي وحدوده، واستقلاله عن السلطان ومدِّ جسوره، وعلاقاته بغير المسلمين وحدودها، وعضوياته في المؤسسات العالمية.
وتلك ولادة جديدة في قرائح أجيال علماء وطلبة العلم، وسائلين عن المخارج التشريعية للإنسانية من الصعوبات الواقعية.
ومن يضجر من كتابتي المستمرة عن الشيخ لا يلقي بالا للآثار، ولا يهتم  بإيحاءاتها، وقد يريد مسخها من الضمير العلمي الإنساني.
إن الإمام من هذه الآثار التي ينبغي العناية بها، لأنه مورد خام دسم للعلم والحياة.
إن الإمام توفاه الله، وكل إنجازاته توقفت، لكن أملي أن نساهم في ولادة جديدة لتركة أودعها عقول مريديها والمنتفعين بها، ميراثا لكل الأمة، بطبع الكتب، وتنظيم الملتقيات، والندوات، وبث الحصص الإعلامية في التلفاز والراديو، والنشر الصحافي، والشبكي، وتسمية المؤسسات الرسمية عليه، للإسفار عن رسوخ علمه، وتحرير مَحَالِّ النزاع حوله، لسحب البساط من تحت أرجل المتوجسين من خطر اعتداله عليهم.
لذلك أتأسف لجلِّ القنوات التلفزية، وأعاتبها بشدة على إغفال إعلان وفاته، ونقل جنازته، وبث حصص تستولد مناقبه وفضله على الأمة، وكأنه ما جال وصال في بلدانها، بينما أغلبها تسكعت مصوراتها قبل أيام في شوارع نقل جثمان الملكة البريطانية، دليلا على غرس الغزو الثقافي جذوره بعمق بين ظهرانينا، لاستئناف صرف أفئدة الناس عما هو إسلامي، ودفعها إلى غيره.
أمَّة الخيرية منتبهة دوما إلى قيمة منابع نهضتها، ويقظة لخطر تجاهلهم وطمسهم من الضمائر، ولا تمل من النحت عليهم، ولا تعمى عن بواطنهم، ولا تمتهن تجهيل أبنائها، ولا تُعْجِزُ قواهم عن تقليب صفحات تاريخهم، وتلك الولادة الجديدة.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم