منطلقات المواقف من المولد

استفادة من أحداث ماضية أصبحت أميل إلى الكتابة عنها بعد مرور عواصفها، بسبب الهيجان النفسي كالقِدر المَغْلي يتعالى ويتسافل داخله الماء، لأن التخدير الذهني يُعمي عن كل مرئي، والواقع في خط النار إما مقتول أومجروح، وكدت أكون المقتول أوالمجروح لما وقعت في تقاطع النيران الفكرية والسياسية والاجتماعية الثائرة. واستدبار الزوبعة يقي من الرمد، إلا تنبيها واجبا إلى خطر متيقن، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
فإن المخمور بالبطر لا يحسن حواره حتى يصحو منه، ثم يعاد إلى نقيض قصده، لأن السكر لا يقتصر على عصير ثمرات النخيل والأعناب، بل كثير من العواطف والروحانيات تُذْهِبُ العقل، وتُرْقِصُ اللُّب، وتحرك نشوة النصر خيالا وليس شيئا.
فأحسن وقت لإثراء الأفكار بالآراء هو زمن السكينة، وسقوط حصى التراشق، لأن التوجيه أثناءه يعطله تسرع المواقف، أما بعده فالوقت موسع، لا مضيَّقٌ.
إن مسألة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، لا أنحو فيها سبيل الترجيح بين سنيته أوبدعيته، إباحته أوحرمته، وإنما صوب أغوار منطلقات الخائضين فيها.
إذ يستحيل أن يتبادل الناس بيان المسائل المختلفة، دون منطلقات خلفية دافعة، وأسباب مبرَّرَة، وغايات مستهدفة، لذلك بقيت أسمع وأرى وأقرأ لمتناولي الموضوع بالعلم وأدلته، أوبالعاطفة ووجدها.
فرأيت في تقديري منطلقات هذه المسألة متشعبة رؤوسها بما يلي:
1/ المنطلق الطرقي المصر على الإباحة ميلا نحو الصبب الروحي، وإرضاء للمشايخ، وجمهرة الطرقية.
2/ المنطلق السلفي ادعاءً، المصر على التبديع إرضاءً للمشايخ، وجمهرة المحاكين.
3/ المنطلق السلفي ادعاءً، النافي للإباحة بهمس من وراء أستار القوى المعادية الفكرية والسياسية المتوجسة من تعلق المسلمين بتاريخهم وقادتهم وضميرهم الإيماني، وقيام نهضة إسلامية بذلك، فهي تختلف بينها، لكنها تتفق ضد المسلمين، وتبذل الجهود القصوى، والنظريات والسياسات لتقزيم رموزهم.
إن أصحاب المنطلقات السابقة ينزعون إلى قولبة غيرهم للتفكير بعقولهم، والإبصار بعيونهم، وتعطيل آرائهم، وتوجيه بحوثهم، بواقع (أغمض عينيك واتبعني).
4/ المنطلق الخارجي: لا يخفى أن الغرب ومن سار في فلكه يحسن سياسة الإلهاء، بتوظيف الأشخاص والتيارات والجماعات والمخططات والمناسبات بما فيها الخلافيات الدينية لصرف الرأي العام الإسلامي عن المهمات، لعله يَذُرُّ مثقال مُنَوِّمٍ على الذهن المسلم، يؤجل النهضة أوبدايتها، لتقليل الأضرار عليه.
5/ المنطلق الاجتماعي: إن الاحتفال عند طبقة عريضة ما هو إلا مجرد ميراث قديم، لا علاقة له بالارتطام الفكري والفقهي، بل باجتماع الأسر الكبيرة والصغيرة، ليحمي الأولياءُ قوامتهم من الاصطدام، وسوء الانطباع، والأولادَ من الإهانات المعنوية، والهزائم النفسية أمام الأتراب، بالمشاركة ولو بأنشطة بعيدة عن الرمزية التاريخية، كما يحدث في الموقف من شراء الأضحيات والتباهي بها.
6/ المنطلق المحايد الذي يناقش المسألة بحرية بعيدة عن التوظيف، واستقلالية عن الدوافع المختلفة، والأهداف المرسومة، يرى سنية أوإباحة أوبدعية المناسبة باستدلال شرعي مستقلٍّ.
بعد هذه النظرة المفصلة أرى أن تتعلم الأمة الحفاظ على شساعة مساحة الخلاف العلمي والفقهي، لتبرئتها من الانحيازات والعصبيات، وفضح الموظِّفين والموظَّفين.
وتحرير المنطلقات والخلفيات من الاستخدام، وتحييدها عن الاستقطاب، وتصفيتها بالإخلاص.
والتوقف عن استعراض باعِ العلم والفقه المتشاحن، لتفويت الفرصة على مستغلي مختلف الاتجاهات لمصالح مرادة أومحاربة.
وعن التشويش بها على المسلمين خاصة العوام.
وعن المساهمة الغافلة الجاهلة في صرف المسلمين عن القضايا الكلية التي يريد غيرهم تحولهم عنها، وتضييع أسبابها وأدواتها ووسائلها وأساليبها ومقومات النهوض والتحرر بها.
والكف عن الضغوط الأدبية والمعنوية والفكرية، والتهويل الروحي على الآخرين بمصطلحات إحباط الأعمال، والتأثيم بالمخالفة، فقد انتهت صلاحياتها بسبب انتشار العلوم ومجالاتها.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم