سلاح المكانة الاجتماعية


درَّستُ موضوع الرسالات السماوية، وأسباب تحريف كتبها، فذكرت منها الحفاظ على المكانة الاجتماعية، لأن النفس تواقة إلى البروز، وتلك فطرة ربانية ليقبل الإنسان على امتطاء المعالي، فإن كان خيرا فالظهور مباح، لا ليحول حق الله إلى غيره، وإن كان شرا فمنكر.
لكن بعض الزعامات أرادت بالمكانة الاجتماعية الاستفراد بالمصالح، للهيمنة والابتزاز.
فالرهبان والأحبار عايشوا صدق رسلهم، لكنهم غمطوهم، وحرفوا الكتب المنزلة، وحرروا نسخا شخصية ونسبوها إلى الرب، ولم يعترفوا بخطيئتهم واستمروا على ضلالهم، لأنهم أُشْرِبُوا مكانة بين العوام يفضلون دوامها لئلا يتساووا معهم.
ومنعوا العلوم كيلا تحال المكانة إلى العلماء، فثارت عليهم شعوبهم، وألغت السيطرة الدينية للكنيسة ببديل العلمانية.
زعماء قريش أيقنوا صدق محمد صلى الله عليه وسلم منذ طفولته، لكنهم أصروا على الإعراض، بسببها.
ملالي الشيعة أوهموا عوامهم بالعصمة، وحقهم في جباية خمس أموالهم، والتلقي عن الله، وانتسابهم إلى آل البيت، سوَّل لهم الانتصار للباطل، بعضال داء المكانة.
ملوك وحكام العالم ممن حُرِمَ ثقافة العدل لا يستسيغ ترك منصبه، ولا العودة إلى الحقيقة وقد أتخم بأوهام الخيال، لأنه نال بها ما لم يره في حلم.
قيادات الأحزاب، بعدما حَصَّلوها، وأصبحت يومياتهم علاقات واضحة متجددة بأنظمة، وفنادق، ومؤتمرات، وشخصيات نافذة ومالية مصلحجية، ومرتبًا ماليًا من التنظيم، وهبات حكومية، وتسلطًا على أتباع سلموهم قلاد الثقة العمياء، تعسَّر استشفاؤها من مس وهمي خطير، فأصبحت صورهم مرتسمة في كل الأذهان من مكث البقاء.
القيمون على الأضرحة والمشاهد، يعيثون بين الشبه الخرافية، وعجز عن نفض غبار الأساطير، لاعتلائهم مكانة بين الجهلة، وقداستها بينهم، والتنازل لهم عن أموالهم، وشيء من أعراضهم، لأن شعوذة إجابة دعائهم مسيطرة وسارٍ مفعولها المخادع على الغافلين.
الساترون أحوالهم الفاسدة في المهنة، أوالأسرة، أوالمحيط، أوغيرها بحلية تجلب تقبيل الأيدي والجباه، والتمسح بالجلابيب، وتفويض الدعاء، يستبشرون بلقب الشيخ، ولو جهلوا علوم الأولين والآخرين، ويشمئزون من النداء بالإسم.
وفي المقابل كثير من أهل الفضل والورع والعلم يبتغون وجه الله ويتحرون الحق والصواب، تطابقت علانياتهم مع خلواتهم، وأداءاتهم مع ضمائرهم، وادعاءاتهم مع واقعهم، قدوات حسنة، دون ابتزاز ولا استدراج، تجري وراءهم المكانة الاجتماعية دون ابتغاءٍ.
إن المكانة سلاح، له حد يقتل، وحد يحمي.
السيئة منها داء نفسي، يكرسه مجتمعات مستجيبة للاحتيال، مرحبة بالاستبداد، عقولها معطلة، وأذهانها مكبلة، توارثت تعظيم الدجل، وتصديق الكذب، وأنماط الخداع.
وهي بكل أنواعها لذائذ موهومة مطربة بنشوة تقود إلى الحسرة ولو بعد حين.
وهي سكر بوهم لا بخمر، كالهِرٍّ يأتزر جلد نمر، وجبانٍ يتلبس صورة بطل، أسماؤها تحاكي صولات الكبار في عقول الصبيان، يكاد يكون المنبه إلى خطر خيالها ضحية لسعات الدبور إذا نبش عشه.
الحريص عليها، يحب الجمود، ويرفض التغيير.
مع أن الإسلام لا يستهدف إهانة عزيز القوم إذا تاب وأسلم، بل يصون له الإكرامٍ في مساواة بغير كبر ولا بطر.
أما الحسنة، فقدوة الطهر، تصون العقول، تجلب النفع، وتدرء الضرر بحكمة.
إن الأمة مدعوة إلى التعرف على الأسوات الحسنة التي لا تريد جزاء ولا شكورا، القائدة إلى النهضة الشاملة، والتحررِ من العجز والكسل والاستعمار واقعا ووصاية.
وإلى التفطن لدمى بشرية يحركها الاستعمار لتكبر في عيون الشعوب فيلهيها عن مقارعته.
وإلى الإقبال على العلم بشغف، فإنه الكفيل بوضع كلٍّ في مكانه، ورفع المحترم إلى قدره، والتعريف بالعالي والحقير ومنازلهما، وتسليم صكوك التبجيل لمستحقيها، واكتشاف صولة القط، وخور ممتطي الكذب، فتشتغل بأساسيات مهامها، وبناء حضارتها، وتفجير نهضتها.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم