الشيخ القرضاوي كما عرفته.

قد لا تعرف سيرة شخص إلا بعد موته، ذكر سيد قطب رحمه الله أن حياة الفاضل تبدأ بعد مماته، لما يستخرج له من مناقب.
منهم الشيخ الداعية الفقيه المجتهد المفكر الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله.
لا أدعي معرفته بدقة، رغم ما قرأت له، وتابعته، فبعد إعلان وفاته اكتشفت حياة أخرى لم أكن أعرفها عنه من أفواه معاصريه ومعاشريه العلماء المفكرين القريبين، في بقاع العالم.
إن كل عالم يتوفاه الله تظهر له جوانب عظمة كان يخفيها ربما تجردا لله وحده.
لكن قوة الإعلام تستلُّ مكنونات الشخصيات بتطورها التقني.
إن الشيخ كان أمَّة، يحتضنها في قلبه، وتحتضنه في أعماقها.
بدأ نجمه يسطع بولادة الصحوة الإسلامية للشباب الذي أراد أسلمة الواقع لبعد الشقة عن النبوة والخلافة، ولتأثير الاحتلال الغربي لبلاده ردحا غيَّر كثيرا من ملامح شخصيتها الإسلامية وقيمها.
كان من أوئل المحتضنين للدعوة الإسلامية التي تحمَّلَ مشعلها الشباب، بقلمه ولسانه ومنها كتيب (الصحوة الإسلامية ظاهرة صحية يجب ترشيدها لا مقاومتها)، ضاربا به انتقادات الحكومات والعلمانيين والجهلة ووارثي عادات الاحتلال الذي طمس ذهنياتهم.
شعرت في ذلك الكتيب حينها بجناح يحتضننا، ويد تحنو علينا بسبب المقاومات الشرسة لكثير من أطياف المجتمع، المستغربين لما أسموه الدين الجديد، ونحن في عز قوة الشباب وبطشه المتشوق لرؤية الإسلام يبسط سلطان تشريعه على الحياة.
ثم بكتابه (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف)، عالج فيه بعض مظاهر تطرفها.
إن خطبه تشهد لمواقفه الثابتة القوية ضد محتلِّ فلسطين، كما لو أنه شاب صغير يصرخ في وجهه ليقض مضجعه، ساهمت في نمو سريع لوعي الأمة حول قضيتها المركزية.
كنا شبابا نحيط به في ملتقيات الفكر الإسلامي، فيأتيه المكلف بالتشريفات، فيقول له (لا أنا مرتاح مع الشباب)، جلست فضوليا بينه وبين الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فأحسست أني بين رجلين من الجنة.
ساهم في حل كثير من الإشكالات باجتهاداته العلمية كمسائل الزكاة.
أسس كثيرا من المجامع على رأسها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
كان همه التفكير في الأمة، ما جعله ينأى عن الرد على مخالفيه من الجهلة والرعاع الذين استعملتهم القوى الصهيوأمريكية للنيل من رموز الأمة بدءً بعلمائها، ليسهل الإجهاز عليها.
كنت أنوي الكتابة في مشاكسات هؤلاء ضده، لكني أحجمتُ بعدما علمت استهانته وعدم اكتراثه بهم، لقلة أزوادهم في العلم، بل إنه أعلن العفو عنهم، لأن الدنيا لا تسع هذه الأحقاد، فصاحب العلم لا يعترض على العالم إلا بالعلم، والاحترام والأدب دون تشفٍّ، لأنه يحمل قيمة العلم، أما الجاهل فيحسب نفسه قد وصل وهو لم يخطُ خطوة، لأن الآفاق مقفلة أمام بصيرته العمياء.
ما أسجله على شيخنا رحمه الله تسرعه في بعض الأحداث العالمية وهو بعيد عنها وعن أسرارها السياسية والديبلوماسية، التي أظن أن بعض بطانته سربت له معلومات لا ندري مدى صحتها، منح الحاقدين فرصة النيل منه بغية تضييق الدائرة عليه، جاهلين أن الأخلاق والآداب تفرض عدم تجاوزنا مع أهل العلم إن وقعوا في بعض الزلات، إذا كانت بتقدير واجتهاد.
وفاته لم تحظ من وسائل الإعلام بمساحات عريضة للأسف كما نالت الملكة البريطانية المتوفاة.
أريد من الأمة الانتباه إلى ضرورة النظر الدقيق الأفقي في قيمة علمائها، لحماية بيضتها من التهشيم من قبل أعدائها من هذا الباب الرصين.
رحم الله الشيخ القرضاوي وعوضنا عنه خيرا، وعامله برحمته، وأخلف لنا بأهل علم يواصلون المسيرة الدعوية العلمية الاجتهادية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم