بين التحالف والركون.

تنفجر هذه الأيام غضبات، بوجدان صادق غير عاقل، بعيدة عن العلم بأدلته الكلية والتفصيلية، ومقاصده الاستراتيجية لحاضر المسلمين ومستقبلهم.
مع تهمة الخيانة لكل مطبع أومتحالف واقعي براغماتي رغم عدم نسف المبادئ والقيم.
وللحكم على هذه المواقف مسألتان:
الأولى: إن التخوين يعني خدش الولاء والبراء، وتهمة العمالة للعدو، وهذا لا يلقى بعواهن غير ثابتة ولا متروية ولا عليمة بالحقائق الصحيحة، إنما ينعت به العميل الواضح المعادي المتخابر على حساب الأمة ومبادئها وقيمها.الثانية: إن التطبيع إرساء العلاقات البينية بشكل عادي، ومنه التطبيع مع المخالف المسالم، والمخالف المعاهد، والعدو الواضح، والظالم لشعبه لا للأمة، صريحا أومتأولا، والنظام العادي في إطار العلاقات الدولية.
وإذا التفتنا إلى تأسيس دولة الإسلام منذ الهجرة، وجدنا التطبيقات العملية لما سبق، بنماذج منها، إقرار حق المواطنة لساكني القطر، من مسلمين، ويهود، ونصارى، نصَّت عليه وثيقة المدينة.
ومنها معاهدات المسلمين مع قبائل اليهود والنصارى على حسن الجوار وكف الأذى، ومعاهدة صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين، ومعاهدة تسليم يهود خيبر نصف خراج أرضهم لإقرارهم عليها.
أما التحالف فهو مجرد اتفاق على مصالح مؤقتة أودائمة، أوسِلْمٍ مُقَيَّدٍ بشروطه، كالدفاع المشترك، والتبادل التجاري والتقني، وتسطير الحدود، وغيرها، دون تجاوز الخصوصيات التي لا حاجة لنا بها عند غيرنا كالأخلاق والثقافة والعقائد والتعليم والتربية والعادات، وتبادل وسائل وأساليب التطوير والأداء، كالدواوين والإدارة والبناء والصناعات وطرق الشورى واتخاذ المجالس النيابية وتنظيم السلطات وفروعها.
لقد تحالف المسلمون مع خزاعة، وقريش مع بني بكر، إلى درجة تفعيل الدفاع المشترك بين المسلمين وخزاعة، إثر اعتداء رجال من قريش عليهم بعد صلح الحديبية.
فتعايشت هذه الأحلاف بشكل طبيعي مع المسلمين في الجوار، والتجارة.
فقد حكَّم بنو قريظة وبنو النضير المسلمين في جناية قتل بينهم.
وميزان ما سبق (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9) سورة الممتحنة، لكنَّ التطبيع مع عدو محارب، قاتل، احتل الأرض وهتك العرض، وخان العهد فهو غير مقبول.
أما الركون فهو الاطمئنان، والسكون، والولاء، واعتقاد النجاة بالعدو، والاستعانة به.
قال القرطبي، حقيقة الركون في اللغة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، ولعله مأخوذ من الركن، وهو دعامة كل بناء، قال تعالى:(أو آوي إلى ركن شديد) هود:80.
وروي عن أبي العالية قوله:(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا): لا ترضوا أعمالهم.
وروي عن قتادة قوله: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه.
وقال الطبري في معنى النهي: ولا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم، وترضوا أعمالهم.
قال ابن كثير تعقيباً على قول الطبري: وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة، فتكونوا كأنكم قد رضيتم بصنيعهم.
إن التحالف والتطبيع البعيد عن مقام الركون يمكننا من التواصل، وتمثيل ديننا بشكل صحيح، وحماية بيضتنا، وتحيِيد غير المستأمن في حال الاستضعاف، خاصة إذا خاننا المحسوبون على الملة، والوقوف على مسافة متساوية دون إملاء ولا تعطيل.
إن هذه المسائل يحكمها استماع بيني، وحوار مفيد مستفيد، ونقاش آخذ معطٍ، بهدوء نفسي يبغي الصواب المتجرد، لا تعصب أحمق، واتهام جاهل، آيل إلى خصومات تذهب بالريح وتفشل القوة.
لذلك ينبغي على المسلمين توطين أنفسهم، واحتكامهم إلى العلم وأدلته بفهم صحيح وتأويل مكين واجتهاد رصين، كي لا نحمل لواءً قد تسقطه عاطفة هوجاء غير واعية بالأصول والمقاصد.
تنبيه: يليه: حماس والنظام السوري.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم