بين السياسة والمبادىء الجزء الثاني.

بعد أن بينت المعاني الكبرى للمبادىء والقيم، نتجه اليوم إلى القول في علاقتها بالعمل السياسي.
ولا يفتئتنَّ علينا أحد من المنتسبين وهما إلى السلفية بتحريم السياسة لعلة الفتن الحزبية، ومن العلمانيين بإرادتها عوجًا ووصفها نفاقا وكذبا كي يصدوا عنها المخلصين من الوطنيين والإسلاميين المعتدلين.

لأنها في اللغة تعني حسن التسيير، فقولنا ساس الأمر أي سيَّره، ومنه ساس الدوابَّ أي ربَّاها وروَّضها واعتنى بها، وساس أمور الناس، أي دبَّرها وصرَّفها. وبناء عليه ليس بالضرورة أن تُسَيَّسَ مصالح العباد بالكذب والنفاق حتى يمنعها البعض بستار الشريعة، أويُعَمِّي عنها البعض كي تخلو لهم مراكز القرار. وبهذه المعاني هي تسيير حكم الرعية أكثر منه تصريف المنافسات والخصومات الحزبية، لكنه غلب استعماله في الدلالة عليها فتقيد به. وفي هذا الإطار قد يضطر الفرد أوالهيئة من أجل إسعاد الشعوب وخدمتها، إلى الاحتكاك بآخرين مخالفين في القيم، أوبعضها. وهذا مجال قد يُفَوِّتُ به جاهله كثيرا من مصالح العباد لتعنُّت وتصلُّب يتزيَّى زورا بالمبادئ، أوالقيم، ولو مع مسلمين، أويُذهب سانحة درء ما أمكن من المفاسد على الأقل. إن العمل السياسي مع المخالفين المسلمين، غير ما يكون مع الكافرين، ومع ذلك لم نجد في القرآن الكريم ما يحرم التعاون معهم في إطار قيمنا. إن الله تعالى أوجب على المسلمين التعاون على البر والتقوى مع الكل ومنهم الكفار، والنص الدال على ذلك جاء في سورة المائدة مرتبا بعد ذكر الصادِّين عن المسجد الحرام مباشرة في قوله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2). سورة المائدة. سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مبسوطة مُعَرِّفَةٌ هذه الحقيقة. عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شَهِدْتُ حِلْفَ بَنِي هَاشِمٍ ، وَزَهْرَةَ ، وَتَيْمٍ ، فَمَا يَسُرُّنِي أَنِّي نَقَضْتُهُ وَلِيَ حُمْرُ النَّعَمِ ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ الْيَوْمَ لأَجَبْتُ عَلَى أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَأْخُذَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. رواه البزار في مسنده. ولم يمتنع ما لم يخالف قيمه الملتزم بها، دون اعتبار قيم الآخرين. بل إن بعض جزئيات التعايش والتعاون مع غيرنا قد يسهم في تكريس قيمنا، وحلف الفضول كان في ذلك الإطار، رغم أنه حدث في الجاهلية ورحب به النبي صلى الله عليه وسلم لو دعي إليه في الإسلام. إن التعاون مع الغير لا يلتفت فيه إلى قيمهم ما ترجح فيه جلب المنافع ودرء المفاسد. وفي المدينة أملى وثيقتها التي نسميها الآن الدستور، وكانت شاملة لكل مواطني المدينة، من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، بما أنها لا تهدم القيم الإسلامية. وفي صلح الحديبية اتفق على بنود كان مظهر بعضها كاسرا شوكةَ المسلمين، بما أنها لا تلغي قيم المجتمع الإسلامي، بل كان من بنودها حرية اختيار التحالف مع قريش أوالمسلمين، فتحالفت قبيلة خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، للدفاع المشترك، ونفذه النبي صلى الله عليه وسلم بعيْد اعتداء قريش عليهم. إن على المتمسكين حقيقة أوظاهرا بمبادىء الإسلام وقيمه [رغم الجهل بها]، الوقوف عند هذه المعاني مليًا لتسيير أعمالهم مع غيرهم خدمة للبلاد والعباد من ورائهم. إني أقدر سماكة ذلك الحاجز النفسي بين المختلفين، الذين لم تجمعهم حواضن متوافقة، لذلك إما الاستعداد لما سبق من التوصيف والاستدلال الشرعي، وإلا فالانسحاب من البداية، عوض الخضوع لقواعد لم يصنعوها، ثم إذا ظهرت النتائج يتسللون من مقتضياتها بحجج لم تُشَعَّر من قبل. فلا أظن انعدام إمكان التعاون في بلادنا بين الهيئات المختلفة من أحزاب وتنظيمات فيما يتفقون عليه، إلا إذا خرَّبَ قيمة معتبرة. وقديما قال المرشد العام لتنظيم الإخوان المسلمين الشهيد حسن البنا رحمه الله، نعمل فيما اتفقنا فيه، ويعذربعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه. فنرجو ألا تكون شماعة المبادئ والقيم جدارا ماكرا في وجه منافع كثيرة نقدمها للعباد والبلاد، أوبعض مفاسد نقيهما منها، في أي مركز ومنصب مشروع كان.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم