الوطنية سلبا

الوطنية قيمة يرسمها المخلصون، وطريق يسلكه الصادقون، في كل مجال وزمان ومكان من الدنيا، بيسر واعتدال ووسطية ومرونة وتدرج، ولن يرقى إليه البتة تسلق آخر، فهو متألق في أبراج أمنيات الشهداء، وأحلام جهاد العدو، وآمال الاستقلال.

ولذا فلن يؤهل لصونها إلا مُحْصٍ لها، في مختلف جوانبها، بفقهٍ مقصدي، وترجيح علميٍّ، وحكمة ناظرة، واستلهام ثاقب يستحضر الماضي ويُسَيِّر الحاضر ويحدق في المستقبل، يُفيدُ من التجارب البشرية الفاشلة والمخطئة والناجحة.

يعجبني في هذا المقام مواقف بعض المتبصرين الحلماء الدارسين مؤهلات الوضع أمام صورتها المشعة، فتتواكب مع مآلات التنازل أوالتشبث، وتقرر مصير المناصب بناء على المطروح فوق الطاولة.

لقد كانت مبادرة الرئيس بن يوسف بن خدة رحمه الله إشراقة في وجه الجزائر المستقلة، وتخليدا لروحه الطاهرة، جنبها تفطُّرَ ميليشيات الارتزاق الحربي.

والرئيس الشاذلي بن جديد ترك المنصب ولم يجنِّد أتباعه لئلا يحولها إلى سجال دمويٍّ لا يبقي ولا يذر، فنأى بنفسه حمل وزرها على ظهره إلى يوم القيامة.

والشيخ محفوظ نحناح رحمه الله درء مفسدة راجحة على منفعة آجلة، فصان الدماء بروية، وترك الأمر لغيره، لأن الوقت لم يحن بعدُ لشعار الإسلام هو الحل، وأبقى على بصيص الأمل عند اليتامى والثكالى.

والسيد اليمين زروال فضَّل قيمة السلم على إزهاق أرواح جديدة، فانزاح من المشهد.

أثناء التحضير لتشريعيات 1997م، واجه أحد الأحزاب إشكال العزوف في إحدى الولايات، عوض التنافس، وكان المرشح الأول والثاني يتباريان للتنازل، لكنهما فازا معا.

إن من ذكرتهم سابقا لم تسُقْهم مساومات، أواستخدامات، أودوائر وسراديب، أوأهواء، أودنيا، أوغيرها، إنما صرفهم عن وزر المناصب، قيم أبوا الخروج عن مسارها.

وإن كنت ممن شرفني الله بالتـغافل عن حظِّ النفس في أحد الاستحقاقات، فإني:

لا أتمنى للشعب الندم على ائتمان وكلاء، فيجدهم مواليَ لدهاليز السياسة والمال والمصالح والمشاريع وغيرها.

ولا إعراضه عن صنع وضع بلاده لتحسرٍ على تفويض منمقي الوعود المستغفِلة، تولَّدَ منها تخيلُ مستقبلٍ مشرقٍ، وتهيؤُ أحلام الناطحات، والنظافات، والتقنيات، والإنسانيات، والكرامات الآدمية، والحضارات المدنية، وكلٌّ منهم يُسِرُّ بين جنباته الاستبداد، أوالوهم، أوالوصولية، أوالاغتناء، أوالهمّ الشخصي، أوالانتقام، أوالتعفين، أوالنرجسية، أوغيرها مما لا يراه إلا عالم خفايا الصدور.

ولا يأسَه أمام حرب المناصب بين بعض منتخبيه يستخدمهم كأحجار الشطرنج كامنون من خلف ستار مسدول.

لأنه كما قالت الدكتورة إحسان الفقيه: كل إنسان صندوق مغلق، فيه من الطبائع والغرائز والأهواء المتنازعة بين الخير والشر، وفيه أيضا من القوة والضعف مقادير مختلفة لا تكاد تضبط، وكما لا يتشابه اثنان من البشر في الخِلْقة والصورة والملامح ومعارف الوجوه، فكذلك لا يتشابه اثنان في الطبائع والغرائز. اهـ.

إنه ما لم تسلَّم القلوب، والنُّهى، لتدريب الروح، وتربص الضمير، ورسكلة الأخلاق، والرهبة من الأمانة، والرغبة في الثواب، فلن تزول من يوميات أمتنا مظاهر تبول الإجرام، وتغوُّط الخيانة عليها.

وما لم تسند الاختيارات إلى أهل الحل والعقد، وكبار القوم، وأعيان الناس، لتكليف الأصلح، فلن يختفي لُعَابُ الصبيان في أعمار الكبار.

إن الوطنية ليست عجلا جسدا شعارا له خوار، ولا تعني الإقبال دائما، بل قد يرجح الإدبار لظنون قوية، ومحظورات جسيمة، ومقاصد واضحة، وليست (أنا وليكن بعدي الطوفان).

لا تقتصر (إن صح الادعاء) على الفعل الإيجابي، بل تشمل كذلك الفعل السلبي، الذي ينوب عنه لمبرراته الواقعية الحقيقية.

وقد فعلها قبلنا الصحابي المجاهد الجليل خالد بن الوليد في غزوة مؤتة، فرجع بالكُرَّارِ يقينا في هيئة فُرَّارٍ وَهْمًا.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم