لصيانة معين الوحيين

في ملتقى الفكر الإسلامي بقسنطينة صائفة 1403هـ، 1983م اقترح الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي إضافة الاجتهاد الانتقائي إلى جانب الإنشائي، لتصفية ميراث الفكر الشرعي من رواسب كثيرة أدرجت فيه، منها المرجوح، ومنها العائد إلى مجرد استلهامات، واقتباسات بعيدة لا تمت إليه بصلة، كعبارات بعض علمائنا أوصالحينا غير المنتسبة إلى كتاب ولا سنة، ولا قاعدة، ولا أصل تشريعي، ولا قياس صحيح، وتتخذ حَكَمًا، وتتقدم الأدلة الأصلية، رغم توهم قربها من روح بعض النصوص.
ومع صدور أقوال، وخواطر روحية، لبعضهم أحيانا، وتلك المعارك المنسوبة إلى جزئيات المسائل الاعتقادية والروحية والفقهية، التي تَحَمَّلَ فيها البعض تكلفًا على الشرع، تُصْبَغُ غالبا بالتعصب والعاطفة الزائدة، دون إخضاع الواردات لميزان الأصول.
ولأنَّ (كلٌ يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) تصلح قاعدة مفادها (كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا بدليل)، رأيتها تَبَدَّدّتْ بالتَّزَمُّتِ، فأصبح المقلِّد يأخذ ولا يرد، والمُبَدِّعُ، يرد ولا يأخذ.
ومنهم المستدل بالأكابر على ميوله، لكسب معركة المراء، رغم أن مستندهم لا يعدو الفهم والقياس، ولا دليل على تنزيهه ما لم يعضِّده النص، أوالاجتهاد المتين بالقواعد حقيقةً لا وهمًا.
لقد سوَّق الرهبان والأحبار لأتباعهم الأخذ دون الرد، فاستعبدوهم، بجبريةِ أغمض عينيك واتبعني، فوقع فيها كثير من المسلمين بعوامهم وبعض علمائهم وطلبتهم.
فأُعِيقَ العقلُ، وتمكنت فرية تعارض الإسلام معه، واستحكم التقليد، وفُتِحَ غضُّ الحَرْفِيِّينَ بصائرهم عن العلل، والتفاسير، وأسباب التنزيل والورود، والمقاصد، وقواعد الأصول والاستنباط، فأفسدوا من حيث أنكروا على المفسدين.
إن ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رغم القدرة لا تحل الجرأة عليه بعدهم، لأنه تَقَوُّلٌ عليهم، واتهام الرسالة بالنقص، ولو جاءت من استنباطات ومشاهدات بعض أصحاب المواجيد، والأحوال، والتصوف، والتذوق، والقربات في الخلوات والصلوات، والخلط بين التعبدات والعادات، والعازلين النقلَ إذا عارضه العقل.
أما ما لم يفعله لغيابِ المدد المادي والتقني كما توفر لنا، فيحكم فيه بمختلف المصادر التبعية وبالخصوص المصالح المرسلة.
إنَّ الاستمرار في تعظيم ما لم يعظمه النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤول بنا إلى شركيات خطيرة، كالمبالغة في التبرك بأهل العلم، والصالحين أحياء وأمواتا، والأنوار المشعة من قبورهم، وشفاعتهم فيما بينهم، وتنزيه بصاق الشيخ في يد مريده، لخبر لم يصح عن تبرك الصحابة بنخامة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو صحَّ فهو استدلال سقيم، وقياس مع الفارق، مما لم نسمع ولم نقرأ له دليلا من النصوص الفاصلة، ولا يحلُّ لأحد القول بدونها، لأنها مما تعم به البلوى ذلك الوقت، ولم توجد.
وتبرير الرقصات والتهودات بذكر الله وحبِّ رسوله، ما يُخْرِجُ الذكر عن إطاره المنصوص.
واستغناء أصحاب الأحوال والرسوم عن العلم.
ذهلتُ حين سمعتُ عن أحد الأئمة يدعو المقبلين على الحج إلى التوجه نحو قبر النبي صلى الله عليه وسلم لطلب استغفاره لهم، ولم يَدْعُهم إلى استغفار الله تعالى الذي يرى ويسمع أنين السائلين.
إن صدور مثل هذا ولو من الأفاضل، لا يلزمنا في شيء، إن لم يُعَضِّده الدليل الصحيح الصريح، ولا يعدو كونه تفسيرات بشرية لنصوص، أوفهمًا لها، أوتجارب تَخَيَّلتْ لها الموافقة.
أصبحَ المريدون يحفظون أقوال الخواطر أكثر من حفظ القرآن والسنة المعصومة.
ما سوغ لكثير دوام ذكر الشيوخ والأسياد أكثر من ذكر الله، ودوام التوسل بهم ومنهم، أكثر من التوسل بالله تعالى.
ومع تعدد قنوات الاتصال الحديثة فقد أصبح كل من يجد قولا لأحد ينشره مقدسًا، رغم أنه مجرد شغف قد يبعد ولا يقرب.
ولذلك أرى أن تسد الذريعة بالمنع الشرعي لكل أنواع السلوكات الروحية بمجرد الفهم والاستنباط، بل بالتصريح النصي، كي لا تتشعب إلى شعوذات تذهب بشعاع التقرب التعبدي الصحيح.
وإذا رفضَ بعض أهل العلم بعضَ تفسيرات السنة للقرآن، بسبب عدم الموافقة في الموضوع، فالأقوال المليئة بالخواطر أولى بالرد.
وإذا كان مخالف النصوص لقول شيخ أومتبوع آثما، فقريب منه من يُمَجِّدُ الأقوالَ دليلا قبل النصوص.
وإذْ تجاهلتُ ذكرَ أمثلة، فلكي لا أتهم طرفًا، أوألمز هيئة، أوأطعن شخصًا، أوأستفزَّ نفسًا، أوأقدح عرضًا.
وللتقريب، فقد استأنسوا بمضَيِّفٍ تأخَّرَ في تقديم سفرة الطعام لزائريه بسبب استحيائه من وجود نمل عليها تَحَرَّج أن يطرده حتى يقضي نهمه.
هذا العمل إن دلَّ على رقة وجدانه، فلا شرع يلزمنا بإضافته إلى أحكامه، ولا مجبر لجعله من التراث والميراث التشريعي، ومكارم الأخلاق، ولا حجةَ فيه كي نستنبط منه تأثيم طارد النمل من طعامه.
إن المتهم في معارضة النصوص، أوعدم مطابقتها لها، إلا لمجرد ادعاء، هو آراء الرجال صيانة للوحيين.
إن ترك أي عمل لعدم الدليل من النصوص أوقواعد الاستنباط لا إثم فيه، فلا يدعينَّ أحدٌ تفويت خير كبير بذلك، لأن في العمل بالنصوص الصحيحة الصريحة مندوحةً عظيمةً تعوِّض ما اشتبه عليه في العمل بالرأي غير المؤيد بدليل صحيح صريح.
إن الفكر الإسلامي التشريعي والفقهي بحاجة ماسة إلى عمليات تحديث وتطوير وتجديد، للإحياء، لا للتغيير والتبديل السنني.
يكلف بهذه المهمة المقدسة هيئة علمية متمرسة، يخول لها وضع برنامج ونظام عمل، لتمحيص الشوائب، وتمييز ما يُثَبَّتُ مما يحذف، في كل نواحيه.
وليس ذلك بالعسير فقد قام الشيخ صالح بن أحمد الشامي بتنقية السنة النبوية، وحذف المكرر منها تيسيرا على قرائها، إلى أن ترك منها 3921 حديثٍ، دوَّنَها في مختصر سماه (معالم السنة النبوية)، وهو في ثلاثة أجزاء.
ليبقى النبع النصي صافيا من تعدد المصادر بين أيدي أتباع مقلدين، تأثروا بشيوخ رأوهم وعاصروهم أكثر من تأثرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يروه ولم يعاصروه.
ولئلا تَعْلِقَ بنا لوثاتهم، فيفلت منا الانضباط التشريعي، وتتجاوزنا الأحداث، وتتلطخ عقائدنا، ويشوبها التحريف مثلما حدث للجزيرة العربية بنجد وما حولها في القرن الثاني عشر الهجري، الموافق للثامن عشر الميلادي.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم