النخب والحرية

كل المجتمعات تتوق إلى الحرية العامة والجزئية، وكلما جثم الاستبداد، زادت حاجتها إليها، وهي طبقات مختلفة، فيها غوغاء إذا ضاقت عليها
الأرض بالشقاء، انتفضت بكل متاح، مهما كانت التكاليف.
وفيها نخب متباينة، أشرنا في المقال السابق تدبير وسط الحرية إلى أن تبعة التأطير تقع عليها.
إنها تلك الراقية ظاهرا فرديا وجماعيا، النائية عن العوام، طبيعةً، وتفكيرا، وسلوكا.
لا تحصر أوصافها، ولا يحدد مجالها، لأن تواجدها واهتماماتها شاملة للفكر، والتحزب، والفنِّ، والتدين، والعلم، والمال، والتجارة، والاستثمار، والغنى الأرستقراطي.
إن جلَّ الصفوة في البلاد المسلمة منغلقة الدوائر، دائمة التعالي، ضيقة الأفق، إلا المتفاعلة مع العمل الجمعوي لخدمة المستضعفين.حين عانى عبيد فرعون من الاضطهاد والاستعمال الفاحش، كانت قلة السحرة تغض عن إبصار الإهانة، وتتعامى عن شمس التحرر، والدليل أنها توهمت يقين الانتصار له على معجزة موسى عليه السلام، لو لا أن مُنَّ عليها بالهزيمة الهادية.
إنها أغرق في البذخ الفكري والعلمي والمادي منها إلى تحصيل المنافع ودرء المفاسد برصيدها.
وليست بعيدة عنا ظاهرة اجتماعاتها في الفنادق مطولا دون نتائج، لطغيان الحسابات الشخصية، والاعتبارات التنظيمية على حساب رعاية مصالح العباد.
بعضها تحاجُّ للطبقات المتسلطة ضمانا لسلامة الأفق، وأمن المستقبل.
وبعضها يأنف من أبسط السلوكات الحسنة كإماطة الأذى عن الطريق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفكِّ الخصام، ووعظ التجار، ومرتادي الشوارع والمقاهي، والإمساك بيد الكفيف والصغير لقطع الطريق، ورمي كيس الفضلات في قمامة الشارع، تمشي بين الناس برؤوس مُطَأْطَأَة لئلا تُرى فتحرج.
منها الطوافة بين المحاريب والمقصورات، المنغمسة في الفتاوى الفردية، دون الاجتماعية والسياسية الباحثة عن وسائل وأساليب فرض الحرية، وقهرِ القهرِ.
ومنها المتبارية داخل حلبات الفكر الفلسفي العقيم، معرضة عن العلوم الإنسانية الفعَّالة.
لقد ضيَّعت على الأمة وقتا كثيرا لتعجيل فجر الحرية، وهابتْ مصارعة الأمواج المتلاطمة، وفضلت ضمان السلامة.
رغم وجود فرديات تتوق إلى خوض خطوب الحياة لرفع الضنك عن الأمة، لكنها حرمت السند النخبوي الجماعي.
رغم تمدرسها في كل مجال، إلا أنها لم تدفع إلى التحرر من التبعية في الهندسة، والطب، والزراعة، والتعليم، والتقنية، والطاقة، والتعدين، والاقتصاد، والتجارة، والصناعة، وغيرها، بل في صفوفها شراذم جهدها إرساء أركان العمالة للضفة الأخرى.
وهذا مصراع ولجَ منه الاستبداد مستغلا الخلافات الجوهرية والشكلية بين صفوات المجتمع، ليزيد هوة الخنوع عمقا، ويفتت تنظيماتها بددا.
وإذ ترجو الشعوب منها قيادها إلى الاستقلال عن التبعية والتضييق الاجتماعي والاقتصادي، يجدها الناظرون في زوايا منطوية، تنتظر هي الأخرى عرض صدور الغوغاء، لتترجل على خشبة المشهد، وتمتطي ظهرها لتقسيم الغنائم.
تخلت عن مطلب التحرر، بالعلم والدراية والنظرات الثاقبة الهادئة اللازمة، وراقبت مسار غالبية أخرى اعتلت منصاته، لتخرج عليها من جحر الطريق وتسلب منها النصر بأمان.
إن لم تسلك النخب سبيلها، نابت عنها الدهماء، فدمرت وهي تحسب أنها تحسن صنعا.
ولو حاطت السُلَطَ ببطانة صالحة قوية لضاق عليها الانحراف عن الصراط، إلى سبيل الظلم، والبغي.     
إن النخب مدعوة إلى تفعيل الرصيد العلمي الجامعي والأكاديمي ومخابرهما في بلورة مشاريع تفتَكُّ انعتاقا من قبضة الجهالة والاستدمار بكل جوانبه.
وإلى خدمة بناء، عوض زوايا نداء، لا يجر عليها وعلى المقهورين إلا ويلات التعسف، والجور.
وإلى دفع عجلات التنمية في كل شيء عموما وفي الاقتصاد خصوصا، تسهم في إخراج البلاد من التبعية، عوض استئثار كل فرد منها بالاستثمار دون الصالح العام.
ودون ذلك عقبات الران المعنوي الكؤود التي يجب تذليلها بتمرين جديد، وتدريب تدريجي، وتحضير نفسي، لإزالة رواسب القعود.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم