الفطرة والإسلام

تداولتُ مع تلاميذي موضوع الفطرة الإنسانية في القرآن الكريم، بعد سؤالهم عنها، فسرها بعضهم بالإسلام، فوضحتها ووعدتُ بنشر هذا المقال التوضيحي، معتذرا على طوله نسبيا. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أوينصرانه، أويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء]]. رواه البخاري ومسلم.

إن الفطرة هي الصفات الخَلقية الأولية التي مُنِحَهَا الإنسان وغرست في طبيعته، وهي الاستقامة والسلامة.
ومنها حب الفضائل والمحاسن وكره الرذائل والقبائح، والميلُ الأصلي إلى السلوك المستقيم والتصرف والصدق.
أما بعد الاندماج في الحياة الاجتماعية، فتصبح جميع الصفات الفطرية عرضة للتأثيرات، التي قد تغير منها قليلا أوكثيرا.
يخلق الإنسان على طبيعة الإحساس بالجوع وحب الشبع، وهو أول ما يفطر عليه، ولولاه ما مصَّ ثدي أمه، والفقر والحاجة إلى المال، والتعب والراحة والنوم، والنزع إلى التملك، والحب والبغض، والغرائز المختلفة، والشعور بالقوة القاهرة المتحكمة في الكون، خاصة عند سماع الرعد، أورؤية المطر، أوالإحساس بالزلزال، أوالهدم الكبير، أوغيرها مما يشعره بأن شيئا خارقا خفيا يدير الكون.
كل هذه الطباع يرقى مسارها، أويحرف من قبل الوالدين، والبيئة.
فكيف يقال إن الصبي يفطر على الإسلام، وتفاصيل مبناه، وأركان الإيمان مما لا يفقهه؟ حتى إذا ذكر له الرب، تساءل عنه وعن مكانه؟
المولود يجبل على كثير من الطباع، بما في ذلك أولاد الكفار، فلا يعقل أن يقال إنهم على ملة الإسلام.
نعم قد يباح القول إن من الفطرة تلك الأشياء الجميلة التي لو صانها الوالدان والبيئة وصلت به إلى الإيمان بيسر عجيب، وطريقه معبدة لبناء العلاقة الروحية الربانية، لكن لا يعني أن الفطرة منذ الصبا هي الإسلام.
إن الحديث النبوي لم يصرح بذلك، وأقصى ما يمكن استنباطه منه أنها استعداد طبيعي لتيسير قبول الإسلام والإيمان.
ولم يَعْجزْ النبي صلى الله عليه وسلم عن التصريح بالإسلام لو قصده.
الكثير يبني تفسير الفطرة بالإسلام على قوله صلى الله عليه وسلم (فأبواه يهودانه، أوينصرانه، أويمجسانه)، بمفهوم المخالفة.
إن خطأ هذا التفسير في رأيي لم يلحظ آخر الحديث ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء))، وكل ما فيه أن الوالدين إما يوجهان الاستعداد، ويحافظان على سلامته، أويحرفانه.
إن تفسيرها بالإسلام، ظلم للحرية التي منحها الله للإنسان للموقف من العقيدة، ليكافأ، أويعاقب بعدل.
القول بذلك ادعاء على الله بجبر الإنسان على الإيمان منذ الصبا، وهذا جنوح عن الصواب في رأيي.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: يستحيل أن تكون الفطرة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" الإسلام، لأن الإسلام والإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وهذا معدوم من الطفل، لا يجهل ذلك ذو عقل.
والأمير الصنعاني حصرها في التحسين والتقبيح العقليين فقط.
قال ابن عاشور رحمه الله (الفطرة في كل أحوال الإنسان).
والإمام النووي رحمه الله يقصر كل ذلك على تهيئة المولود للإسلام فقط.
قال الإمام المناوي رحمه الله: (الفطرة الجبلة المتهيئة لقبول الدين).
ونقل ابن حجر عن الطيبي قوله:(والمراد تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة والتهيؤ لقبول الدين).
وللأمانة أنقل إشارة ابن تيمية ـ دون تصريح ـ إلى ترجيحه تفسير الفطرة بالإسلام، غير أنه قال في جانب آخر بدعوة صبيان الكفار يوم القيامة، فمن أجاب أدخل الجنة، ومن أبى أدخل النار، وهذا يؤكد أنهم لم يولدوا على الإسلام.
إن الله الذي يغرس الإسلام والإيمان في النفوس لا يغلبه تأثير الناس، وكيف يمكن تغييرهما إذا زرعه في النفوس حسب هذا المنحى؟ إنه تغليب طاقة الناس على ما جبل الله.
فالأصح في رأيي أن يقال إنها تحضير وإعداد لقبول الإيمان كي يعين الفكر الحر على التدبر.
وإذا يممنا بصائرنا شطر القرآن في قوله تعالى: [[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)]]. سورة الروم.
فإن شروح المفسرين اختلفت في حصرها بالقول إنها الإسلام.
قال ابن كثير: (فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا): صنعة الله التي خلق الناس عليها.
لذلك يمكن الجمع بين أقوالهم بأن التحضير للإسلام من بين ما فطر الله عباده عليه.
والله الأعلم ورسوله بالصواب.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم