درس التطبيع

آلمَ تطبيعُ المغربِ جميع محبي فلسطين، ووخَزَ ببصمة تاريخية مخزية إلى الأبد، تبيح للكيان، الجولات والصولات، والتحرش بالجزائر عن قرب.
وهو درس لحصافة النظر قبل المساهمة مع أنظمة وظيفية لا تتفق والمنهج المتبع، والأهداف المسطرة، والآمال المرجوة.
من السداد التنقيب عن تفكير الآخر وتدبيره قبل الإقدام على تفاهم معه قد يكون وهمه أكبر من حقيقته.
بالعودة إلى السيرة النبوية العطرة نقرأ تحسس النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المفاوضين في صلح الحديبية، وفرحه في الأخير بقدوم سهيل بن عمرو، لأنه يعرف تفكيره، ومزاجه، وأن فرجا من الله سيقدره معه.
ليست دعوةً إلى استراق سمع الغيبِ، لكن للمستقبل سمات، وقرائن أحوال، وملامح وجوه، وفلتات ألسن، وتوالي أخبار، وتسريب سلوكات مبنية على ثوابت متوافقة أومتخالفة.
إن الجموح لخدمة الشعوب بهذه الانخراطات، لم تكبحه مراقبة مبتغيات أمريكا وأتباعها في الغرب والشرق، أما الأنظمة ما هي إلا أدوات تنفيذ فقط. وبالعكس كان هناك غباء واضح وضع كل الأفكار والأهداف والتكتيكات والاستراتيجيات على طاولتها مجانا.
قُدِّمَتْ تنازلات مقابل أوهام، ولم تقع مساءلات داخلية لاستشعار خلفيات هذه المفارقة في رأيي.
واكتُفِيَ بمجموعة وظائف في حدود مرسومة للتسيير، تتحول إلى استخدام لا مشاركة.
إن التأييد الشعبي ليس كافيا، ولا رادا لما لا يشارك في دفع ثمنه، بل أصبح مُقْحِمًا، لا حاميا من القَصَمِ.
لم يتوغل الإخوان في مصر إلى طبيعة تفكير سواعد الغرب، لاستعلام الصدق من الدهاء، ساعة قرروا اقتحام الرئاسيات.
واليقين أن أمريكا أمرت بفسح المجال، لتتكفل بما بعدُ، لكن لم يُنْتَبَهْ إلى هذا المكمن الخطير.
لم يتحرَّ الناس في المغرب، لتقليص حجم الكتلة البرلمانية وتجنب رئاسة حكومة نظام واضح الولاء.
وإلا فكيف تأخر التطبيع إلى الآن، ولم يقع أيام الحكومات الأخرى؟
أين كان هذا المعطى عندهم؟
والعلاقة بالكيان قديمة، ينقصها الترسيم فقط، لكن الاحتلال في رأيي خطط للوقت المناسب، لِيُحْكِمَ ارتهان المملكة، ثم إصابة الإسلاميين في المقتل التاريخي، وما تبرُّم إخوانهم منهم في البلاد الأخرى إلا دليل، ونتيجة واضحة، وتعدَّى إلينا ضرره.
النبي صلى الله عليه وسلم، لم يهاجر إلا بعد الاستيثاق من أهل يثرب في بيعتَيْ العقبة الأولى والثانية، ولم يحسم الغزو في بدر الكبرى إلا ببعث السرايا المتستكشفة.
لا يغرَّنَّ إنجاز عُدَّةٍ وإعدادٍ معيَّن للاندفاع نحو استلام حكومة دون تحسس الآخرين، ودهائهم، ومناوراتهم، وأجنداتهم.
لأن كل المكتسبات ستتحطم لو تمَّ الدفع إلى ساحة مكشوفة، فتكون الخيبة القاضية، أوالنهوض الجديد من منطلق فارغ صعب.
إن التحرك الذكي المحنَّك يَحْسِبُ لما يقال، وما يحاك في الغرف المظلمة، للإقدام، أوالتأجيل، أوالإحجام، درءً لمفسدة مظنونة أرجح من منفعة متوهمة.
وإذا كانت هذه الأنظمة مستورة الحال بُعَيْدَ تحرر بلدانها من الاستعمار الغربي، فإنها الآن واضحة المراد، والتفكير، والعلاقات، والولاءات.
فلا مناص من الاحتراز، واشتراط المشاركة في كل شيء، وإلا الانسحاب أفضل من الاحتواء.
وإذا علمنا أن العمل الحزبي يستهدف مضاعفة الرصيد الشعبي، فكيف تقع مشاركة تقف في وجه هذا المقصد؟
فلا حاجة لمشاركة ظاهرها على الأقل درء مفاسد، وباطنها على الأقل السكوت عن جرائم، كالتطبيع.
أخطاء كثيرة وقعت أثناء السير نحو إعتاق الشعوب من السطوة الغربية عليها، لكن لم يُسْتَفَدْ من تعثرات التاريخ.
إن المشاركات المحتوية قادت إلى انغماسات وأخطاء بسذاجة أغرقت الأنصار في وحل التبرير، والذبِّ عن مغالطات أحسن أحوالها شبهات.
أبدى الأخ عبدالله جاب الله استشرافا لمستقبل تشريعيات ديسمبر 1991م، لما نصح بتقليص دوائر الترشح، لأن أمرا سيحدث لو تمَّ الاستحواذ على الأغلبية، لكن احْتُقِرَ له كلامٌ أثبتت أيام قليلة مصداقيته.
لقد ضُيِِّعَ تحرير الأمة من الخنق الغربي على مقدراتها وهويتها، وتشتَّتَ الالتفاف الشعبي عنه، بتحريف المسير، أخَّر مشروع إنهاء الوصاية عليها، ولن يعاد لم شعثها، إلا بتوبة روحية فكرية مركزة، والعودة إلى التنظير الضابط للقيم والقواعد، والمواقف الواضحة، والبناء على فهم مقاصد الآخر.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم