المتساقطون بين الحق والباطل

قد تغر رياضيًا قوتُه، ويثب من شرفة عالية إلى مثلها، دون تقدير صحيح، فيهوي في قاع سحيق، تُهشَّمُ عظامُه، أويشلُّ نخاعُه، أويموت.
إنَّ سوء قياس خطوات بلوغ المرمى مَهلكة، لا تحقق المراد، ولا تدخر القوة إلى الوقت الصحيح.
الإسراع بالانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، مضيع لهما،، لأن الحِمل يثقل الكاهل غير المُعدّ.
إنَّ ما حدث لحزب العدالة بقيادة الأستاذ سعدالدين العثماني، حطَّم النضال وفرق الشمل، بخطأ المشاركة في سلطة من قال الله في حقه على لسان ملكة سبأ [قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)]. سورة النمل.
طعنوا فلسطين، فأتبعتهم لعنتها، ولم يُرَوِّضوا الكيان من حيث ظنوا، ثم ضيعوا السلطة، بحصحصة الملك.
إنَّ نتائج التشريعيات المغربية درس قاسٍ، ووخز أليم، وعبرة نافعة لكل لاوٍ أعناق النصوص، وخطوط العلاقة بالباطل، ومخالفِ الاتجاه.
اللهم لا شماتة، لكن كان عليهم التريث في استلام الحكومة، وأغلبية مقاعد البرلمان لغموض المستقبل.
أوالاستقالة مذ لاحت في الأفق إرهاصات التطبيع.
نشر الأستاذ مصطفى بوقرة رحمه الله مقالا مفيدا جدا، في جريدة النهضة قبل تشريعيات ديسمبر 1991م، دعا فيه إلى الهزيمة المخططة، بعنوان "ألا نخطط لهزيمتنا؟"، بنظرة ذكية إلى المستقبل لقيت إعراضا، وللأسف وقع المحذور، وعضضنا الأنامل، وهو ما خلص إليه الأستاذ مقري في مقاله يوم 10سبتمبر 2021م.
في رأيي إن محمدا السادس أرخى السدول وأزاح جهات معينة بالمعين الديني، ودكَّ بذرة الربيع العربي في المغرب، لكسب مصداقية شرعية تسكب على النوايا الشعبية، مع مراقبة الأحداث على عينيه، فلما قضى وطره، أمسكه، وبعد استغنائه استبدلهم بصديقه.
لطَّخ الأنامل بالتوقيع الرسمي على التطبيع، فطعن بهم أهل منهجهم في غزة بالخصوص.
وما على جماعة العدل والإحسان المعارضة للتطبيع إلا إنقاذ الموقف، واحتواء الشعب الحائر، وإيواء أنصار العدالة والتنمية من جحيم التشتت.
جعفر النميري أراد صيانة عرشه، فاستقدم الإسلاميين، وأعلن تطبيق الشريعة، ثم انقلب عليهم في أول ضمان أمريكي.
والنتيجة إنَّ الأنظمة، الوارثة للفساد، والعلاقات المحبوكة على حساب القيم الوطنية، لن تشرك التنظيمات النقية بين أسلاك شائكة، إلا لتزيين الواجهة السلطوية بمظهر الحرية، والشفافية، والتفتح، وما وظيفة المساحيق إلا إخفاء تشوهات الوجه فقط.
مشاركتها مدعاة تبرير سلوكاتها للاستدلال على صواب الوجود معها، ومواراة فتوى التزكية.
ما أحبَّتْ الإسلاميين أبدا، وإسهمتهم في بعض الاستوزار لحاجة في المحيط الحاكم، يزول بزوالها.
إنها كالجن، يشارك ابن آدم في عقله وبدنه، فإذا تركه خلَّف وراءه سحرا مشوِّها، لذلك نسمع عن بعض الفرديات النظيفة تنغمس أياديها في شيء من ذوق الفساد ولو في أبسط أشكاله، بالصفقات، والعلاقات المشبوهة، تلوي الأيدي مستقبلا، ولنا في كل بلاد مثال.
إنها كما قال الأستاذ الحبيب آدمي سنة 2002 كالنار، إن ابتعدتَ عنها بردْتَ، وإن اقتربتَ منها احترقتَ.
لذلك وجب التفكير في موازنات كثيرة لتسديد المواقف من المشاركة في السلط، والحكومات، تقي مطبات تعكر النضال، وتعفن تاريخه، وتصرف محالَّ الاحتضان.
لقد أثبتت التجارب بعيدا عن التخوين، والتكفير، والتفسيق، والتبديع، وسائر التهم، أن المشاركة في حكومات سلط مخالفة في الأصل، والمنهج، والأهداف، نوع من التسرع، والتميُّع، وتتبعِ السراب، وقد عانى من هذا الإشكال الإزدواجي غير الإسلاميين كذلك، إذ لا يعقل أن يُنتخب الرئيس ببرنامج، ويأتي رئيس الحكومة ذوالأغلبية البرلمانية ببرنامج آخر، فيقع التركيع، أوالتشنج، ثم الانسداد، كتونس.
إنَّ ما حدث في المغرب للعثماني ورفاقه، انتحار أخطر من الخنجر.
إنَّ على الصالحين في هذه الأمة مراجعات كثيرة مرافِقة لمسار العمل النضالي، تحفظ بها الجهود، والأنفس، والوجدان، والحواضن الطبيعية، إلى أن يكثِّر الله السواد، ليشع نور الحق، بإقبال مقنع، وتحكم مِنْ علٍ.
إن ما حدث في المغرب وخز مبرِّح كذلك للأنظمة الوظيفية، التي تقتات على الصراع، رغم التوافق الظاهر، فالمصالح متضاربة، والانقلابات دورية، وخشية الانتقامات بين أجنحتها خافقة.
ستندم هذه الأنظمة كثيرا على تزيين واجهتها بالإسلاميين، فهم لا يبغون لها شرا، ولا سطوة، إنما شغلهم خدمة بلدانهم، ورفع الغبن عن شعوبهم، دون خلفيات، ولا انقلابات.
ستجد نفسها بالحتمية التاريخية في برزخ مظلم، فلا كسبت شعوبها بوضوح، ولا فرحتْ بعمالتها أبدا.
فلا يأمننَّ المخزن على نفسه من تثعلب الكيان، سيستفرد به تركيعا وابتزازا، بعد دهائه مع الإسلاميين، لأن بديله موجود، وهي سياسة أمريكية قديمة واضحة.
فلا يغفلنَّ أحدٌ عن مكاشفات التاريخ، فكم من خصلة خالها مخفيها مستورة فضحتها الأيام بقوم قلَّبُوا صفحات الماضي، فأخزت من حيث ظنها رديمة الدهر.
كل حبيب إلى محبوبه حنيف، إلا المخالف بين محبوبين، لا إلى هذا ولا إلى ذاك.
قال الله تعالى عن المنافقين:
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143). سورة النساء.
رأس المنافقين ما تربع على عرش المدينة، وما انتمى إلى الإسلام.
خائن الحق، لن ينال ثقة الباطل ولو خدمه الدهر كله، لأنه مَئِنَّةُ خيانته كذلك.
الخارج من جهنم يدخل الجنة بعد التطهر بماء الحياة، لكن لا ماء حياة في الدنيا، بل الريبة الملاحقة، والشك، والمجانبة، والإلجاء إلى أضيق الطريق.
الذين أعانوا فرنسا على احتلال الجزائر، والتوغل في مناطق حصينة منها، ما صانوا الانتماء، وما جلبوا لأنفسهم الذكر الحسن عند الفرنسيس، وما ورَّثوا لأحفادهم راحة من الحرج المعنوي كلما ذُكروا، رغم أنه [وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] . سورة فاطر/18.
خونة ثورة التحرير، ما قضوا عليها، وما أكرمهم المحتل، بل اندحر وتركهم يلحقونه فرادى، وأذلهم في بلاده، وأسكنهم أقبية موحشة، وضايقهم، ومن بقي، يشار إليه بخسة، وخلسة إلى الآن.
خائن الحق عبد مطيع للمبطل، لأنه مكشوف الثغر.
حامل الحق يغرز كلمته في جسد الباطل، والخائن خنجر مسموم في ظهره، تلاحقه اللعنة، وندم الضمير يَعُقُّهُ عن كل خير.
الفارُّون الأفغان، خانوا الوطن، وانسحب عسكر الأمريكان، وتركهم يتدافعون على طائرة الإجلاء، هربا من الانتقام.
الأفاضل من القوم يعافون الصلاة على الخائن، والوقوف على قبره، ويترك بعده اختلافا بين قوم يرون الترحم عليه لظاهر إسلامه، وآخرين يحجمون لظاهر خيانته.
سلطة الضفة الغربية ما صدقت مع الشعب الفلسطيني، ولا احتضنها الاحتلال ولا احترم مناطق إدارتها.
الانحناء لريح الباطل ريثما تهدأ، خير من مداهنته لكسب مودته المستحيلة، وتضييع موالاة الأخلاء إلى الأبد.
تأجيل الصراع معه لبقاء الهيبة، أحسن من الانغماس فيه بالشبهات المبررة.
قد ينتكس، ويصارع لينهض، لكنه لن ينقذ معه العميل، بل يتركه مركوزا في البرك الموحلة، لأن مثله موجود إن فقده.
الباطل لا ثقة فيه، يستخدم الطامعين، ثم يرمي بهم في قاع غائر، ويلطخ تاريخهم، ويلقي بهم في قماماته.
قال نابليون للجاسوس اليوناني الذي كافأه بِصُرَّةِ مال رميا على الأرض، إثر خدماته للتغلب في معركة ـ بمارخ فيلد ـ سنة 1809م، ورفض مصافحته:
(مثل الخائن لوطنه .. كمثل السارق من مال أبيه ليطعم اللصوص .. فلا أبوه يسامحه .. ولا اللصوص تشكره.). 
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم