الحاجة إلى سمعة العلماء

الأصل في التصدر لمنصب العلم الإخلاص، واستهداف مرضاة الله، والتقرب إليه، ولنا ثقة في ابتغاء علمائنا الأحياء منهم والأموات هذا الأمر الجليل، قال الإمام الشافعي رحمه الله (بدأنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله).
لكنه لا يتنافى مع إرادة النفع به، كي يبلغ الآفاقَ، لوجوب نشره، وتحريم كتمانه،، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مَن كتمَ علمًا ألجمَهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ بلجامٍ من نارٍ) رواه ابن حبان، والحاكم، والبيهقي.
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فانتشار العلم، يحتم حسن سمعة العالم، لأن الثقة بالعلم، مرتبطة بمصدره.
وهذا المقام ليس لتعداد آداب العالم والمتعلم، كما دَوَّنَتْ المصنفاتُ، وإنما لبيان الحاجة إلى سمعة العلماء، مع شحٍّ في الأمثلة لئلا يطول بنا المقال.
وبعد استذكار المسألة مع أخي الإمام محمد صبور وفقه الله، تلخصت لي أسبابه فيما يلي:
1) التدوين:
ذاع صيت الأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وبعدهم ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم، بتدوين تلاميذهم دروسهم، ونقل مؤلفاتهم إلى الأمصار.
وحُرمت أجيال أخرى من المدونات، وكاد يذهب كثير من علم الإمام أحمد بسبب ضياع كراساته، ومنه ما حدث بُعَيْدَ غزو التتار.
ولذلك يتحتم الاستفادة من فنون التوثيق المعاصر، فكثير من الندوات والمحاضرات، والإلقاءات تنتهي بغير تقييد، فتنحسر سمعة أصحابها، ولا يُنتفع بهم، إلا رسائل، ومذكرات شهادات الدكتوراه في العصر الحاضر، وبعض تسجيلات الدروس الشفهية في المشرق والمغرب.
2) الإعلام:
الإعلام سلطة رهيبة، ترفع قوما، وتضع آخرين، لدواعي خارج العلم المجرد. وكان ينتشر قديما بالرواية الآحاد، والمتواترة، وهو الآن مقروء، ومرئي، ومسموع، أما شبكة النت فقد جمعته كله.
واستفاد منه جل علماء المشرق الآن، الأحرار، والموالون، والموظفون على رؤوس مؤسسات علمية رسمية حكومية، ومن سافر إليه، كابن خلدون، ومحمد الخضر حسين، رحمهما الله، وبعض علماء شنقيط.
وكذا علماء المغرب، حيث انتبه مريدوهم إلى ذلك، حتى اشتهر جلهم به، خاصة في مجالات التخصص، وبالقنوات التلفزية.
وحرم من هذه الوسيلة كثير في أقطار أخرى، كعلماء الجزائر في بجاية، وتلمسان، وأدرار، وغرداية، باستثناء محاولات، كما يحدث مع تلاميذ الشيخ لخضر الزاوي بالمدية، مستعملين ما أتيح، وبعض مثقفي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بكتابات، وندوات، ولقاءات تلفزية، ودروس مسجدية، تعريفا بعلمائها.
أما علماء تونس، فالمعاصرون يجهلون عنهم الكثير، مقارنة بالمغرب، إلا من فرضته قدرته العلمية على العقول المتلقية، كالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وابن عرفة، رحمهما الله، رغم شح وسائل الإعلام في زمانهم.
ومن الهند حبيب الله الأعظمي، الذي عتَّم الإعلام بلوغ سمعته آفاقا واسعة.
3) المبادرات الشخصية:
كالبحوث، وتجديد التأليف، والندوات، والمحاضرات، واللقاءات العلمية في مختلف البلدان، والشجاعة في طرح نظرات تجديدية لتطوير التخصصات، والفكر التشريعي الفقهي، المثير للجدل، أما المكوث خلف الأدبيات العلمية الماضية، مع إمكان إبراز القدرة على المساهمات الحديثة، يؤثر عكسا.
إلا ما نجد في العصر الحاضر لعلماء المغرب من بحوث، وتجديد، مثل الدكتور أحمد الريسوني، وتوسع الشاب محمد سعيد الكملي خارج مذهبه المالكي، وأساتذة ودكاترة شباب جدد في الجزائر، محاولين إعادة صياغة الفقه المالكي، وتحري الأدلة النصية، ووجوه الاستدلال بشكل ممتع ينحو بالباحث نحو الاستفادة والتعلم، ثم النشر، يذيع الأسماء العلمية الجديدة للمساهمة في إثراء العلوم الإسلامية ومكتباتها، وقد لا أكون مقصرا إن ذكرت منهم الدكتور عمار جيدل صاحب الثورة التجديدية في الفكر الإسلامي، والدكتور موسى اسماعيل صاحب الصياغة الجديدة للفقه المالكي بأدلته.
4) المواقف:
وخاصة فيما تعلق بقضايا الأمة، كالدفاع عن تحكيم الشريعة، والقانون، وفلسطين، والعلمانية، والفساد الاجتماعي والأخلاقي، والاستبداد السياسي، وقهر الشعوب واستضعافها، وكل ما تجده متنفسا لها، وقول كلمة الحق أمام السلطان الجائر، يضاعف سمعته الحسنة فَيُقْبَلَ عليه، ويستفاد منه.
وإن كان الموقف يخيل إلى الذهن بتلك الصورة القوية، فإنه يضيع نسبا من الصواب إن افتقد التحكمَ والحكمةَ في إعلانه، وسيفسد علاقته بمحيط التأثير.
فلا يعقل أن يحشر العالم نفسه في مسألة أكبر من اختصاصه، فيكشف التاريخ حقيقة الأحداث، وزيف ما ادعاه، فيزل به.
تدخل العالم بفتاوى سياسية تغيب عنه معطياتها، ودواعيها، وصفقاتها، ومقاصدها، وألاعيبها الجيوسياسية، يلطخ سمعته، ويحرم الغير من علمه، بسبب خلطهم بين العلم والموقف.
أن ترى عالما كبيرا مجتهدا، مجددا، يساهم في تأجيج بعض الأوضاع، ويُحَمِّلُ ربقته رقابا، أوآخر يسهم في قوة الاستبداد، أويوجه سهام انتقاده صوب الشعوب، أويبرر السلوكات الخاطئة السلطة، عوض السكوت المؤجل، أمر محرج، نجد صعوبة للإقناع بالتمييز بين علمه الغزير، وموقفه البشري الاجتهادي.
5) العلاقات:
العالم المتواضع مع العامة، الملبي مختلف الدعوات المشروعة، ليس كمن يضرب عنهم صفحا، وينأى عن منحهم لمحة كلمة، أوإجابة سؤال، أوغيره.
6) الانفتاح العلمي:
لأنه يُمَكِّنُ العالم من التواصل الفكري مع قناعات موافقة، ومخالفة،، ونقل معارف جديدة إلى الأمة.
هذه في رأيي أهم عوامل سمعة العالم له أوعليه، بعيدا عن موضوع آداب العالم والمتعلم، إذا حماها، صان مكانته بين أتباعه، ومريديه، وانتفعوا به، لأن الناس يصدون عن كل من هانت عليه سمعته، وينأون عن الأخذ منه، ولو غزر علمه.
إن مجانبته لما يحرس قيمته، مضيعة لعلمه، وخسارة لمن لم يفرق بين تجريد العلم والسلوكات الزائدة منه، وإثارة جبهات ضده، وتهكمات الغوغاء عليه.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم