مصطلح العلم ومكانته.

أصادف من حين لآخر من يلقى أحد الناس، أويذكره غيابا، أوفي محفل، فيلبسه رداء الشيخ، أوالفقيه، أوالعالم، لمجرد مظهر، أودرس، أونقل حكم من كتاب أولسان.
يؤلمني الاستهتار بمكانة العلم، ومنح صفته لكل من لهج لسانه بحرف، ولم يرعَ له سموه المفروض، وأتساءل، عن المعيار الذي يضعه هؤلاء ليزنوا به هذا المثقال؟ وهل يدري عوام الناس ومثقفوهم ما يقولون؟
إن احترام الفرد لسنٍّ، أوسابقة جهاد، أوحسن بلاء، أومكانة في قوم، لا يبيح رفعه إلى مقام العلم والفقه، ما لم تستجمع قواه معانيه الحقيقية.
سافر الرجال في طلب العلوم رجالا، وركبانا بنَصَبٍ، وقطعوا الفيافي والصحاري، وتجشموا الصعاب وذللوها، وحاذوا رُكُبات الشيوخ والفقهاء، حتى قيل: زاحموهم في الركب، وتغربوا السنوات الطوال عن الأهل والولد والوالد، وحفظوا المتون والشروح وفهموها وأصلوا لها، وأخذوا من كل فن عن شيخ متضلع، وما ادعوا هذه الصفة، ولا قالوا نحن فقهاء.
أعرف من أعاد تنشيط الشيوخ بالتمدرس على أيديهم حتى قلتُ: لو لم يتعلم هذا الشيخ إلا بسبب تلاميذه، لكفاه أن يكون عالما، لكن لو سألناه لأبى هذا اللقب، حياء من الله، وتقديسا للعلم، وهيبة منه، رغم تحقق سمات العلماء على محياه.
شيوخ المذاهب أوجبوا على مريده حفظ القرآن، وتفسيره، والحديث حتى أوصل بعضهم العدد إلى ما لا يقل عن ستمائة ألف حديث، ـــ لولا أن مجتهدي عصرنا خففوا الوطأة بامتلاك كتبه وشروحه كي يجد المسألة حين البحث ـــ، والإلمام بأصول الفقه، ومقاصد الشريعة، واللغة العربية إملاء، ونحوا، وصرفا، وبلاغة، وشعرا، ــــ ومنه الشعر الجاهلي ـــ، وغيرها مما يبوِّىءُ مكانته.
لم يكن الأزهر يمنح شهادة العالِمية إلا بعد تيقن الملكة الحقيقية للعلم في الطالب.
يعجبني حاملو واء السلفية عندما يتواضع الواحد منهم فيقول أنا مجرد طويلب علم.
إن من القياسات التي تتسلق بالفرد مدارجه، عدد الشيوخ، والتلاميذ، والمؤلفات، فلينظر أحدنا إليها  عندما يلقب به غيره.
نحسب بعض الصالحين مطيعين لله تعالى، حريصين على إرضائه، ونرجو دعاءهم، ونطمع في استجابة الله لهم فيما نبغي خيرا، ونوقر مجالسهم، لكن حرام في حق العلم وصفهم به، بغير ما سبق.
كان الإمام مالك رحمه الله لا يروي أحاديث عن هؤلاء، لخروجهم عن دائرة اختصاصه.
لقد أباح بعض الفقهاء والأصوليين لمن يتبحر في مسألة دون غيرها أن يجتهد فيها وفق القواعد المبسوطة، لكن لم يمنحوه الصفة الكاملة.
فليس كل من قرأ، أوحفظ متن ابن عاشر أومصنف الشيخ خليل، أوأبي بكر الجصاص، أوأبي زيد الدبوسي، أوالإمام السبكي، أوالإمام البيهقي، أوابن النجار، أوابن قدامة، أوينقل فتوى، يسمى عالما وفقيها، ما لم يكتسب رصيدهما، أويخرج علينا بشيء جديد في إطار اختصاصه، أويجتهد في مسألة جديدة يفرِّج بفتواه على الناس أوالسلطة أوأي جهة تحتاجها.
عن جبير بن مطعم قال: قامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بالخيفِ من منًى، فقالَ: نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ..... رواه ابن ماجة.
والمعلوم ضرورة أن مانح هذه الصفة لغيره تلزمه شروطها، ولا نرضى لأيٍّ كان من العوام، أوطلبة العلم،  هذه المهمة، لأننا بذلك سنهوي بقيمة العلم، ونفقده رصانته المتينة.
قد نعذر العامي إذا اعتبر إمام صلوات، أوخطيب جمعة، أومعلم قرآن عالما، لأنه لا يملك عيار هذا الوزن. كان في مسجدنا خلاف بين موظفيه، وبعد صلاة العصر يومًا، أمسك بي أحد العوام قائلا: ماذا حدث بين العلماء؟ فلم أجد حاجة إلى تلقينه ما أذكره الآن، لعدم أهلية فهمه.
كل العلوم المشروعة يهاب الناس الخوض فيها، إلا ما تعلق بالكتاب والسنة فلا يستحي الكثير من التألي على الفقه وأهله، بل وإذا سأل وسمع الإجابة تناطح معها مريدا ليَّ أعناق النصوص والأحكام المحكمة بما يوافق هواه، ولا يتوقف كما يفعل مع العلوم الأخرى، وقد وجد من يجرؤ على الفتوى لنفسه دون وجل.
إن استدامة التساهل مع هذا الأمر من قبل العوام، وسكوت أهل العلم، سيؤدي إلى:
إهانة العلم.
الزهد فيه.
التساهل في تلقيه،، وقد قال لي أحدهم، علمكم هذا أقرأه عند التحضير للنوم.
ضياع هيبة أهله بين مقتحميه بلا حياء.
جرأة العامة على العلماء الحقيقيين لمجرد مخالفة في موقف، أوعرف، أوعرق، أوعصبية، أوغيرها.
خطر العجب والغرور على البعض بمجرد نعته دون انتساب، ولقد جاء على لسان ابن القيم رحمه الله أن (ما أعجب الإنسان من طاعاته فهو عليه، وما شعر فيه بالتقصير فهو له). من كتاب مدارج السالكين.
فاحرسوا العلم يا أمة العلم.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم