الإسلاميون والأنظمة

الصراع قائمٌ منذ القدم بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والناصر الأهم لأحدهما هو القوة السلطوية لقلب موازين النزال.
تولي الحكم يقتضي العدل والمساواة والرعاية الحقيقية، فإذا انحرف السلطان خشي على نفسه المحاسبة، وسقوط هيبته بين قومه، فيلجأ إلى تدجين غيره كالمعارضين، ليجعل منهم تابعين على حساب الحق، وإلا فالقذف والتشويه والتنكيل هو المصير العقابي.
الأمر نفسه يستنسخ كل مناسبة مع الإسلاميين والمعتدلين منهم بالخصوص، وأكثر مع تنظيم الإخوان المسلمين.
ومع تحرري من أي التزام حزبي، فإن الإنصاف يفرض عليَّ النظر إلى كل جهات الصراع بينهم وبين الأنظمة الحاكمة في البلد الإسلامي العربي.
كما أتناول في هذا الموضوع الكليات دون الالتفات إلى جزئيات شاردة، ليست مدعاة لتدمير قضية عليا عند العاقل، فلم يسلم منها المثال بله الواقع.
انتدب الإسلاميون أنفسهم للانتظام إنقاذا لدين الله، والدعوة إليه وتحكيمه، فتنامى وعي  بضرورة إعادة أسلمة الواقع، وخرجت أحزاب إلى العلن بعد العمل السري، بمقاصد ومسميات إسلامية، صراحة وبدونها.
التزمت الاعتدال في الطرح، والسلمية في التعامل، لكن العلمانيين انتهزوا وسُلَطُهم فرص الإذلال، والتنكيل، والدفع نحو واجهة المشاركة للتدليل على ديمقراطية صورية قبالة عيون العالم.
لقد مُنح الإسلاميون وزارات، ومناصب حكومية أخلصوا فيها الأداء.
وكان الفعل المضاد حاضرا كل مرة.
فالملك فاروق يأذن للإخوان في المقاتلة في فلسطين ثم ينقلب عليهم ويسجنهم، ويغتال مرشدهم الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله.
وعبدالناصر يصل إلى السلطة مع محمد نجيب إلى الحكم بمساعدة الإخوان ثم ينقلب عليهم.
وفي تركيا يصل الأستاذ علي عدنان مندريس إلى رئاسة الوزراء، ثم يُنقلَبُ عليه ويُعدم.
نجم الدين أربكان يصل إلى رئاسة الحكومة بانتخابات شفافة جدا، ثم ينقلب عليه كنعان إفرين.
ابن علي في تونس يستقبل الأستاذ راشد الغنوشي ثم ينقلب عليه.
في السودان يعلن الرئيس جعفر النميري تطبيق الشريعة ويدني منه الإسلاميين ثم ينقلب عليهم.
بوتفليقة يستعين بوزراء من الإسلاميين، ثم تغير مناصبهم بجرة قلم ولا يمنحون فرصة إتمام مهامهم  بنجاح.
في مصر يصل الدكتور محمد مرسي رحمه الله إلى منصب الرئاسة بانتخابات شهد العالم شرعيتها، ثم تحفر له أيادي الدولة العميقة لعصابة مبارك ليُنقلَبَ عليه.
في تركيا يصل الإسلاميون إلى رئاسة الحكومات ثم الرئاسة، لكن أيادي العمالة الخارجية لم تترك البلاد  تستفيد منهم ولو على شكل تجربة، لتهتز البلاد كل مرة على وقع محاولات الانقلابات.
في تونس يصل قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية بدعم كبير من حركة النهضة ثم ينقلب عليها بجرة قلم.
هذا هو ديدن من يحفظ منصبه ويضحي بمن كانوا يمينه.
وما ذنبهم إذا ساهموا في إصلاح الأوضاع، وأخلقة العمل والأفراد والجماعات والأسر، ورضيهم الناخبون ومنحوهم تفويضا سياسيا لقيادة بلدانهم؟
رغم تقديم التنازلات الكثيرة غير المقبولة والمعقولة عند الأنصار والمناضلين البعيدين عن مراكز القرار والنزال السياسي.
لقد قلتُ من قبل إن أمر الإسلاميين يبكي ويدمي القلوب، لأنهم يبغون الإصلاح في الأرض، يحبون بلدانهم، وطنيتهم لا ترقى إليها ادعاءات العلمانيين بالأخص.
الرئيس التونسي السيد الباجي قايد السبسي يلتقي الأستاذ راشد الغنوشي في فرنسا، في حوار حول وضع البلاد لما بعد فترة الأستاذ منصف المرزوقي، ثم يشهد بعده قائلا: {لم أجد رجلا يعشق بلده كراشد الغنوشي}.
إنهم قوم ضحوا بمتعة حياتهم لأوطانهم، أياديهم نظيفة من الفساد المالي، والأخلاقي، والسياسي، باذلون ناصحون، همهم الوحيد تطهير بلدانهم من بقايا الاستعمار ووصايته، ومنحها الحرية الفردية والجماعية والسياسية، ونشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، رغم بعض خروقات مخترقي صفوفهم فرديا لا جماعيا ولا تنظيميا، ولا يجوز اعتبارها عللا لرمي منجزاتهم من الشواهق بلا رحمة ولا شفقة.
ولو كانت حجة أندادهم قوية، وصادقة في التفتح نحو الخضوع لقيمة الانتخابات، والاعتراف بنتائجها،  لانتظروا نهاية عهداتهم ثم تركوا الشعوب تزيحهم بالصندوق، إن لفظتهم، لكن يقينهم من نجاحهم، يسرع إبعادهم عن المشهد تجنبا لتأثيرهم.
مع إخراج سيناريو الاتهامات المتتالية بالإرهاب،، التمويل الخارجي،، التخابر ولو كانوا حكاما،، المشاركة في ندوات ولو كانت مع علماء،،، ولو بدون أدلة،، مع مجرد شبهات فقط.
يضحكني في هذا المقام تهمة وجهت لأحد المرشحين الإسلاميين للرئاسيات الموريتانية وهي حب الوصول إلى السلطة، وكأن العلمانيين يريدون الوصول إلى الجنة، أومكة.
الواقع يدل على أن مناوئيهم تغدق عليهم القوى الخارجية،،، يحترفون عمليات الاغتيال السياسي،،، يتواصلون مع أعداء الأمة من قريب وبعيد،، والنتيجة انفجار الأوضاع، وأعجب في هذا لمن يفضح نفسه بالانقلاب بعد عودة من زيارة إلى الخارج.
إن مختلف الأنظمة ومن والاها من العلمانيين يحرجون غيرهم من الاستقواء، لكنهم أغلظ من يبطش به.
يتبجحون بالتحضر والتمدن والحوار والنقاش والحرية والديمقراطية بافتقار وتمسكن فإذا انفردوا بالسلطة ارتدوا زيَّ المتوحش.
يقع الإسلاميون في كل مرة فريسة بين حاجة التمكين، وفقدان السند السنني الكوني للاعداد والاستمرار،، على عكس الغرب الذي آل إلى قياد العالم بعد إمساكه بزمامه.
يقول الأستاذ ياسر الزعاترة في مقال له {قوى الإصلاح أوالتغيير تغدو يتيمة حين لا يتوفر لها ظهير خارجي، وتغدو أكثر يُتما حين يكون أكثر الخارج (الإقليمي والدولي) ضدها، وتغدو أسوأ من ذلك بكثير، حين تكون حصتها في الشارع غير قادرة على الحسم، كما هو حال (النهضة) راهنا، ثم يصير الوضع أسوأ وأسوأ، حين تتوفر قوىً خارجية تملك قابلية الدفع بلا حساب لكل من يعمل على التخريب عليها.}
على عكس الشعب التركي في التعامل مع الانقلاب ضد أوردغان، لأنه أبى العودة إلى مبتدأ الظلام.
فأين ادعاءات الإنسانية من التعامل البشع مع الإسلامين بمجرد إزاحتهم بالقوة والانقلابات؟
وأكبر أمارة فاضحة البطش بمعتصمي ميدان رابعة والنهضة في مصر، والحرق، والقتل، والدفن بالرمي في أقبية مجهولة الوجهة.
إن على الأنظمة والإسلاميين في البلاد المسلمة الاستثمار من تاريخ الصراع بينهما، الذي حطَّم كل شيء على الصعيد العقدي والأخلاقي والسياسي والتنموي وغيرها، لم يستفد منه إلا الغرب بضمان بقاء البلاد المسلمة في الدائرة القديمة من التخلف والجهل والفقر والضعف الصحي والحربي.
عليها أن توقن أن استخدام الغرب لبعض رموزها مجرد قضاء مآرب، لا يلبث أن يرميها في سلة التاريخ.
عليها الكف عن استعمال الشعوب للوصول إلى السلطة، ثم السطو عليها بالانقلابات، وما إخراجها  لتأييد كلٍ من فرية المنشية، وانقلاب السيسي، وانقلاب تونس، إلا خير دليل.
عليها الالتزام بشرعية حقيقية ولو أدت إلى استلام الإسلاميين مقاليد تسيير بلدانهم.
عليها النأي عن التعطش لبريق السلطة والخوف من أفوله الذي يعمي البصيرة عن النظر إلى لمعان نور الشرعية.
عليها الوقوف في وجه كل محاولات الانقلابات، ومعاقبة أصحابها، ضمانا لاستقرار الوطن الإسلامي،  بالعقوبات والمحاصرة لإعادة الأمر إلى صاحبه.
فكيف لمن يدعو إلى الانتخابات والمشاركة فيها، وتضخيم نسب المشاركة، يفرح لانقلاب على الشرعية في بلد آخر، أويمتنع عن التدخل بحجة أنه شأن داخلي، بله تمويله والتحريض عليه؟
أما من جانب الإسلاميين:
1/ فقد بات ظاهرا أن التنافس على السلطة يجب أن يكون أكثر دراسة من الآن.
2/ وبات المتكأ السنني الكوني للحماية من البطش ضرورة الوقت والواقع.
3/ وبات الاحتماء بغيرهم خطرا عليهم أولا.
4/ وبات الانتهاء عن الصراعات الزعاماتية المؤثرة على وحدتهم، باختراق داخلي وخارجي واجبا شرعيا.
5/ وبات فريضة شرعية قراءة الواقع والرهانات السياسية جيدا لتجنب السبق الانقلابي.
6/ وبات عليهم العودة إلى المنبع الأصيل، وترك الشهادة لبعض محافل المجون والانحلال، وترك التنازل عن القيم بحجة التدليل على التفتح والتيسير وعدم التطرف.
7/ وبات عليهم واجب تفعيل مبدأ الشورى بين كل طوائفهم خدمة للبلاد والعباد، لا للتنظيمات والأحزاب.
8/ وبات عليهم العودة إلى المحضن الأول، صانع الأجيال النظيفة، لأن الغوغائية معرضة للتيهان.
9/ وبات عليهم التطهر من الجزئيات الشاردة المانحة للإعلام والأنظمة فرصة صرف الشعوب عنهم، ولو كانت في أولادهم وذويهم وأحبابهم،، فوجود بعض عناصر قيادية تشكو من سطوة بعض المقربين في المال والمتاع بغير حق مذهب للريح، ومزيل للمكنة، ومحطم للمقاصد التي نهضوا من أجلها، ومجلبة للإثم والعقاب الرباني، لأنه شهادة باطل عن الحق، وثغر مفتوح لنيل الخصوم منهم.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم