المسجد والدور المنقوص.

شيء جميل يحدث هذه الأيام في كثير من المساجد، يتدخل فيها أطباء قبل صلاة الجمعة للتذكير بضرر الوباء، وبيان الاحتياط ضده، وتلقيح الناس داخلها، مع بعض أعوان الحماية المدنية المنبهين إلى مختلف الأخطار المنزلية كالغاز والاختناق وغيرهما.

إن المسجد بهذا الدور الرائع تجسيد لما شرع لأجله، فقد كانت الشورى داخله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه تَخْرُجُ الجيوش المجاهدة الفاتحة. 

وفيه العلم بالمسائل الاجتماعية والأسرية والشخصية والسياسية والعلمية والاقتصادية والمالية والتجارية.

بما في ذلك الجانب الشخصي الذي يرفض كثير من الناس الآن التدخل فيه ولو على سبيل النصح.

لقد كان له تأثيره الروحي في الالتزام الصارم، والتحذير من عواقب دنيوية وأخروية. 

ودوره المنضبط في حسم مادة النزاع حول الخلافة لأن البيعة الرسمية حدثت فيه. 

وهو الملجأ الروحي الذي يقي المسلمين الشقاق، فيتدافعون لرص الوحدة العضوية الإسلامية.

لكن ما نراه اليوم نزر يسير.

يُفتحُ الضوءُ للمسجد بقدر احتياج السلطة إليه فقط، أما في قضايا أخرى فتسد تلك الخوخة التي يطل منها تشريع منع الربا، والخمور، والاختلاط، والسفور، وبرامج التعليم، وطرق التربية، وصياغة الثقافة الصحيحة، ومنع تزوير الشهادات الطبية والإدارية والانتخابية، وبيان العلائق بين المتدين وغير المتدين، والمسلم وغير المسلم في دائرة الإدارة الإسلامية، ومسائل التنمية، وأخلقة العمل الحزبي والسياسي، والإداري، والرياضي، ومنع التلاعب بأموال النوادي، وكثير مما يُمْتَعَضُ على المسجد التدخل في شأنه.

أذكر أن أستاذا في الثمانينات كان ينظم الفروض المحروسة المدرسية على تلاميذه الذكور في المسجد، مما دفع بسلاسة الكل إلى أداء الصلاة والالتزام بها، ووقاهم الغش لأنهم في حرم ذي هيبة عليه.

لو ترك للمسجد سلطته على الحياة ما كنا نسمع اليوم عن فتن عنصرية جاهلية اسمها العربي والقبايلي والشاوي والميزابي وغيرهم، لأنه الحامي للاعتصام بحبل الله المتين.

توجه من حين لآخر تعليمات إلى المساجد كي تحث الناس على النظافة، والإقبال على الانتخابات، وتفعيل صناديق زكاة الفرض والفطر، لكن دون تجاوز خطوط حمراء في إطارها المحدود المأمور فقط.

أما أن تتدخل في قضايا أخرى يشملها التشريع الإسلامي فمتحفظ عليها، والتبرير جاهز، وهو خشية الفتنة، واختلاف الناس، وإهدار قدسيتها، وتجنيبها التدخل فيما لا يعنيها، وكثير من المصطلحات  لتحييدها وإبعادها عن الحياة العامة إلا ما يُحتاج إليها عندما تضيق الآفاق في غيره، فيستعان بها، وهي أساليب وأدبيات علمانية.

فهذه محاولات التضييق عليه، بمنع تراص المصلين، لا على المحتفلين، والمتجمعين، والمعرسين، والمارين، والمتخرجين، وغيرهم.

ولو بحثنا عمن كان العضد المنيع في الأيام الأولى لانتشار الوباء لودناه المسجد.

كثير من الناس لا يثقون في بعض علامات التلقيح، لكن حينما تفشل الجهات الوصية الصحية يتم اللجوء إليه بحكم أدبياته الروحية لترغيبهم فيه.

في أوربا الكاثوليكية يتم تقييم السياسات وقواعد الأحكام ومساراتها من قبل الفاتيكان ولا تتهرب السلطة من ولائه.

أغلب زائري إيطاليا وخاصة من الدول الإسلامية لابد أن يمروا عبر البابا ليسائلهم حول أهم شيء وهو التعليم، أما عندنا فيراد للمسجد الابتعاد عن الدنيا.

يريد المسلمون للمسجد دورا أكبر وأوسع، يريدونه الآمر والناهي في إطار التشريع وتمكينه من التقنين والتقعيد، فلا غرو إذا قلنا إنَّ الحياة كلها لابد أن يحتضنها التشريع بأصوله وقواعده ونصوصه والاجتهاد في إطار قواعدها عند غيابها.

إن بعض الدوائر تتعدى حدودها، الرياضي يجعل ناديه مسرحا سياسيا وعشائريا وعنصريا، والموظف في الإدارة يحيلها حلبة مالية، وفي المؤسسات المالية والاقتصادية وغيرها يسخرها مرتعا للصفقات الفاسدة، إلا المسجد لا يمكن من بعث رسائل الخير منه نحو المجتمع.

ولا غرابة إذا ذهل المصلون الآن من خطاب مسجدي جديد في الحياة العامة لأنهم تعودوا على كلام  الوعظ والإرشاد الروحي فقط، فيشعر الكثير منهم بركاكته، وقسوته، وكأننا تدربنا على لائكية المسجد، بانطوائه عن زقاق الحياة.

الدور الشمولي للمسجد في تنظيم المحاضرات والندوات العامة الشاملة داخله إلى جانب تلك التي تنظم في الإطار الثيوقراطي فقط.

إن تمكينه من القيادة العامة للحياة دعوة لغير المصلين كي يلتحقوا بإخوانهم، وإلى امتثال الإسلام في كل جوانب الحياة لأنها تنبع من بين سواريه.

ماذا لو نظمت قرعة السكن في المسجد عوض الملعب؟ ألا يدعو إلى توبة الكثير بالدخول إليه مغتسلا؟

إن ضمان الالتزام فيه أكثر من القانون، فلا قوة روحية دافعة إلى التطبيق، مؤكدة له كقوة خروج الأوامر والنواهي من بين جنباته.

ألاحظ انتباه المصلين بشدة إلى تذكيره بضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة ضد الوباء، ما لم أره في المستشفى ولا الإدارات ولا الشارع ولا غيرها.

لأنه حين يتكلم فإنه يتدعم بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، والوعد والوعيد والتذكير بالعواقب العاجلة في الدنيا والآتية في الآخرة كأنها رأي العين.

أصيب رجل فقيه بداء الكوفيد، وفي المستشفى أملت عليه الممرضة التعليمات الوقائية، لكنها لم تستوثق منه إلا بعد أن نقل إليها الأدبيات المسجدية بفوقية الأحكام الشرعية في التعامل مع الداء.

إنه هو الكفيل بتنضيف الساحة الأخلاقية من التلوث المعاملاتي، في كافة المجالات، وليس المجال الفردي فقط، لكن أوصدت عليه أبواب ولوج الشارع والمؤسسات بالشكل العام، وحين ذهبت ذهبت ريحنا.

إنه القاضي على سطوة مافيا التجارة والمال والاقتصاد والصناعات والرياضة وغيرها.

إن على السلطة إعادة النظر، وصيانة قيمته في كل شيء، والتوقف عن إقصائه واللجوء إليه وقت الاحتياج فقط.

فإن فعلنا ذلك أنعم الله علينا، وإلا فسيأتي يوم تضيع السيطرة، والبوصلة، وتذهب الأخلاق والقيم والانضباط الشعبي، فلا تبقى هيبة للقانون ولا للأعراف، ويلتهم اليابس الأخضر، فنندم كالصغار على دين لم نحفظه كالكبار.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم