التدبر بين القديم والحديث

لا أميل إلى المعين الوجداني، في التحليلات، والتماس المسببات، واستنباط الاستنتاجات، والتوقعات، إنما إلى الاستدلال الدقيق، وإعمال العقل، وولوج العمق فيها.

أسمع، وأقرأ لبعض المهتمين بالخطاب الشرعي، المنبهرين بمن يفهم النص ويتدبره، وربما أسلم بواسطته إن لم يكن على دين الله.

لكنهم يخطئون حينما يردون السبب إلى مسألة التدبر فقط، فيعاتبون المارين عليه.

نقرأ أحيانا لبعض العرب كيف أثر فيه نصٌ فأسلم، لأنه لم يرَ مدة حياته شيئا من ذلك في كلام البشر، وهم أعلم، وأدرى بالشعر، وميزانه، والنثر، والقافية، والتقطيع، وغيرها، ثم نحب تنبيه الناس إلى أثر التدبر والتفكر في تقوية العلاقة بالله، وربط الصلة به.

ولإدراك الحقيقة في نظري ينبغي الإجابة على السؤال الآتي:

لماذا فهمه القدامى من مشركي قريش، والمسلمون العرب بالخصوص، ولم يفهمه كثير من مسلمي اليوم، فلا تدبر ولا تفاعل معه؟

يفترق الباحثون عن الأسباب إلى مخاطبي العقول، ومهيجي العواطف.

مثيرو المشاعر ينسبون ذلك إلى افتقاد قراءة النص، وتدبره، والتفكر فيه، ومنه عدم الانفعال به.

ولا أرى الصواب في هذا المنحى، لأن المشكلة لو كانت في مجرد القراءة، ثم التدبر، أوكان التفكر نتاج التلاوة الكثيرة، لسبق المسلمون المشركين العرب كلهم، لأن الواقع يشهد لملايين من المسلمين الآن يقرأون، لكن لا يتدبرون، ولا يستشعرون، ولا صلة لهم بالله.

ومخاطبو العقول يردونه إلى إشكالية المستوى التعليمي، والثقافي، ثم اللغوي والبلاغي والأدبي، بالخصوص.

رغم أن التدبر ومحاولات الفهم، والتفكر فيه، والاعتبار، والاتعاظ به، مطلوبة، والله تعالى دعا إلى ذلك.

قال الله تعالى {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } النساء 82

القرآن أعجز العرب لأنه نزل بلغتهم أي بقوة بلاغتهم، وأدبهم، وتراكيبه، ونظمه، فهو من السهل الممتنع، يفهم ولا يؤتى بمثله،، ليقال لهم بلسان الحال يا أيها العرب هذا القرآن نزل بما تعرفون وتفهمون.

قال تعالى {حم(1) تَنزِيل مِّنَ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَاب فُصِّلَت ءَايَتُهُ قُرآنًا عَرَبِيّا لِّقَوم يعلَمُونَ (3)} سورة فصلت.

ولو لم يكن سهل الفهم، مع عدم القدرة على تأليف مثله، ما أعجز ولا دلَّ على البعد بينه وبين كلام البشر.

فالكفار من مشركي العرب لم يقرأوا كثيرا منه، لكن كان فهمهم له أرقى من مسلمي اليوم.

فلم يكن عتبة بن ربيعة قارئا للقرآن، حين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مغريات ليمنعه من دعوته، وهو الذي ألقى يديه خلف ظهره حين سمع آيات من سورة فصلت، فرجع إلى قومه قائلا: {قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم}. رواه ابن كثير عن ابن أبي شيبة، ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواء، و البغوي عن جابر.

ولم يكن ضماد بن ثعلبة قارئا للقرآن متدبرا له قبل إسلامه لكنه فهم قوله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ......... } حتى قال: قَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ} فبايع على الإسلام عنه وعن قومه.

إن مستواهم في نظري توافق مع مستوى القرآن، فأعانهم على فهمه، واستطاعوا تدبره.

توافق معه شعرهم ونثرهم الثري بالكم الغزير من الكلمات والمترادفات العربية، ومعانيها، ويسر لهم ذلك.

ومن تبصر، فسيجد استعانة المفسرين الأوائل من الصحابة والتابعين وبعدهم على فهم كثير من معاني، القرآن، بالشعر والنثر والكلام العربي في البدو والحضر.

إن انحطاط مستوانا التعليمي، والأدبي، واللغوي، والبلاغي، والنحوي، والنظمي هو الذي أعجزنا عن فهمه وتدبره بشكل صحيح، حتى ولو حاولنا، وذلك أمر مقصود لدك حصون المسلمين، وتعسياتصالهم بمصدرهم التشريعي الأساسي، سخرت له كل الوسائل والأساليب المادية والبشرية والمعنوية السيئة، ونفذه بنو جلدتنا، وسهلوا على غيرنا إصابة الأهداف، وبلع عوام طلبتنا وتلاميذنا الطعم، وأردوا أنفسهم في قاع الجهل بكل أنواع العلوم، وعلى رأسها موضوعنا هذا.

قد يصارع القليل منا نفسه، ويفتق ذهنه، وخياله، وفكره، ليحصل على القليل المحدود السطحي مما سبق، لكن لن يقدر على عمق أغوار سبرها الأولون في تدبر النص الشرعي.

إن ترقية العاطفة الإنسانية عند المسلمين أمر مطلوب، وهو من الذوق البشري الراقي في أحد جوانبه، لكن لا يكفي وحده في فهم عميق للنص، والدوران معه، والتأثر به.

إنما بترقية العقل وإعماله، ولن يتأتى ذلك إلا بالنظر في مختلف العلوم، ورفع شأن التعليم، بعيدا عن إشارات، واقتراحات، وإعانات الغرب.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم