المباح لا إسراف فيه

من جمال الحياة في التشريع الإسلامي اعتدال السلوك، ومنه الحياة الروحية للمسلم، كي لا ينجر إلى رهبانية كهنوتية، أونصرانية، أوطرقية مبتدعة، أوغيرها من مظاهر الغلو والتشديد والتطرف، الجالبة للعسر البدني والمعنوي غير المطلوب ولا الواجب، الصارفة عن الاستجابة ولو بعد حين، لأن الشيطان سيزل العبد عنها، ويريدها عوجا.
ومن أجل القواعد في التشريع أن لا تكليف إلا بمقدور، ولا تخيير إلا بين مقدور ومقدور.
فمدار التكليف على القدرة، إذ لو خرج عنها سقط في العسر، ولابد هنا من الترخيص بما دونه للعودة إلى الدائرة العادية كسائر الناس.
وينطبق هذا القول على الجانب العلائقي الرباني بين المؤمن وربه.
ما أجمل لحظات تضرع العبد إلى ربه تعالى، وفي أوقات مخصوصة، كهزيع الليل، والسجود، والقنوت، وليالي شهر رمضان المبارك، وغيرها مما بارك الله لنا في الدعاء.
وإن امتنعت من الكتابة في هذا الموضوع أيام شهر رمضان المبارك، كي لا أنضم إلى المشاحنات المتبادلة، فإن الناس فيه على ضربين، مقبلٍ ومدبرٍ، ومقتر ومسرف، ولا ينال حظه إلا المعتدل المتوسط، بدليل شرعي ثابت.
وكمثال على ذلك، عن جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. رواه أبوداود.
ومنه التحذير من الإسراف في المأكل والمشرب والزينة، قال الله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} سورة الأعراف.
وقياسا على ما سبق، يكثر في شهر رمضان المبارك التطرق إلى مسألة دعاء ختم القرآن، أودعاء ليالي العشر الأواخر في ركعات الوتر، من أئمة موافقين باعتدال، ومطيلين على المصلين إلى حد التنفير، وتاركين، لانعدام الدليل على وجوبه في ليالي رمضان، وتخصيصها به، ومتطاولين عليهم من العوام.
وانسجاما مع عنوان المقال فالكلام هنا على صنفين، المطيلين، والمتطاولين.
والمعول عليه القول الوسط، لأن دليل الوجوب منعدم، ويبقى وجه الإباحة فقط، اقتباسا من قوله تعالى {وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} سورة غافر، إذا العتاب على هجران الدعاء كلية فقط، فالمباح لا إسراف فيه، أداء، أوطلبا.
إذ كيف تسول لأي إمام نفسه إتعاب من وراءه، بدعاء يزيد عن عشرين دقيقة، إلى أن يخرج الناس عازمين على عدم العودة إلى التراويح، وإلى المسجد بعدها، وقد غالى الإمام بهم عن أشغال أخرى مباحة كذلك؟
حكى لي بعضهم أن أقسم بالله لا يصلين تراويح يوم التاسع والعشرين لما انعدمت رؤية هلال شوال، لهذا السبب.
ولو أنني لا أطمئن إلى مثل تلك الأدعية المترنمة بأداء التجويد الخالي عن معاني التضرع والإلحاح.
فلكلٍ وقته، من قراءة القرآن، وتحضير أشغال الغد، ومسارعة إلى النوم لإدراك صلاة الصبح، وقارىء الكتب، وطالب العلم، وغيرها مما أباحه له الشرع.
إن المسجد ليس مرتعا يتخذه الإمام ليشعر الناس بغلو الدين، وتضييع مصالحهم المشروعة بعد التراويح بحجة العبادة، لأن سائر الأشغال المباحة هي كذلك من القربات المشروعة.
وكيف يتطاول من لا علم له على تاركه في تلك الليالي سواء لانعدام دليل وجوبه، أولعدم استساغته له بتلك الصيغ الخالية من التضرع والتوسل، أولشفقته على الناس، والنفس تروح ساعة بعد ساعة، أولعلمه بما ينتظرهم في بيوتهم بين أهلهم، أولعلمه وفقهه، أولغير ذلك؟
إن المباح لا إسراف ولا تبذير ولا غلو ولا شطط فيه.
ألا يكفي أن نمتع المصلين بدعاء عادي متضرع متوسل إلى الله تعالى لعل بركة تلك الليالي تحفهم؟ ودون إطالة تبغضهم؟
ألا يلجمُ العوامَّ الالتزامُ بعمل من هو أعلم منهم؟ أوالسؤال بأدب يفهم منه الاهتمام عوض تجريح وإهانة الهيئات؟
إن الواجب على الناس التعلم الشرعي، لأن العلاقة مع الله تعالى تعتريها حالات كثيرة.
فقد يكون الفرد في قمة السعادة الروحية، فلا حرج من التوجه إلى الله تعالى وخاصة على انفراد ولو أطال في ليلة خالية عن الأعين.
وقد يشعر في يوم بأقل من ذلك يحسر عنه كثرة الدعاء، أوكله.
وقد يعيش لحظات يتلذذ فيها بالتسبيح أثناء السجود عوض الدعاء.
وقد ينعم الله عليه بأوقات يستعذب فيها الذكر بكل أنواعه المباحة الشرعية، من التسبيح، والتكبير، والتهليل، وكلمة التوحيد، وغيرها مما ورد في السنة، طمعا في ثوابه الغزير عند ربه.
وكل ما سبق مباح شرعا.
فلمَ التضييق ممن لا علم له؟، في تخصيص العبادة بالدعاء فقط، وفي تلك الليالي فقط؟
وهل سأل أحدنا نفسه إن كان قادرا على الاسترسال في الدعاء بمفرده خاليا عن الأعين مع الله؟
إن كانت الإجابة بالسلب، وهي عند الكثير، فكيف يعاتب غيره عليها؟
وليسأل المطيل السؤال نفسه كذلك، وإلا فلماذا يكبلُ الناسَ وهو ربما لم يلزم شخصه في خلوته مع ربه؟
إن المباحات لا تضييق، ولا مبالغات، ولا غلو في قدرها، ولا في أنواعها، ولا في أوصافها.
ولنتقبل كل مباح شرعي سني، دون إنكار، ولا تجريح، ولا جهل علم.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم