تأرجح السلطان.

كل من لعب الأرجوحة مع أترابه الصغار، يعلم كيف تتعلق بعارضتها، وتترنح في الهواء بدون حرية إلى الأمام والخلف، وممتطيها يجهل أنه مقيد، يظن أنها تطير به، فيغشاه النعاس، وهو لا يدري شيئا عن تقدمها وتأخرها، لأنه لا يملك قراره.
هذا هو حال أمتنا اليوم، بعد جيل ذهبي صُنِعَ بتقوى الله، فتسيد العالم وأخرجه إلى نور الحضارة.
لقد كان فيها محمد صلى الله عليه وسلم مدركا لطبيعة رسالته وطريقه، فضبط نفسه صوب وجهتها دون تمايل، بقولته الشهيرة الواردة (والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته) فقال أبو طالب: {ما كذب ابن أخي. فارجعوا}. رواه البخاري في التاريخ وحسنه الحافظ ابن حجر.
فأدى أمانة الرسالة، دون لف ولا دوران، ولا مراعاة أي اعتبار غير المضي في الطريق.
وبعده أبوبكر رضي الله عنه حزم معلم خلافته مع الطوارىء ومنها الردة، ومنع الزكاة، دون مراعاة أي عائق، يؤرجح قراره ورشد حكمه.
وعمر رضي الله عنه وسع الفتوح تمكينا لعالمية الإسلام والدعوة إليه، ولو رمدت عيون كسرى.
وثبت عثمان في سياسته المالية ولو أدى إلى قتله.
وحزم علي رضي الله عنه مع المناوئين، وطالبهم بالبيعة لرص الصفوف، أوالمقاتلة.
لكن الأمر فتر بعدهم، وروعيت الجوانب المختلفة في تسيير السلطان، إرخاء وإمساكا، وصولا إلى الإذعان للرعاع، ولو على حساب الشرع والقانون والتنظيم وهيبة الدولة ومصير الأمة التي تتكالب عليها أقطاب الدنيا.
في حين عرف حكام الغرب كيف يحافظون على قيمة السلطان في استقرار الدول، فاستنهضوا الهمم مع تهاوي أمة الإسلام، التي كثرت فيها مراعاة الاعتبارات المهينة والحيرة من الراضي بالقرار.
فالدولة العباسية تأرجحت بين الأغلبية المسلمة، والأقلية البرمكية ذات الأصل المجوسي، التي قربها الخليفة هارون الرشيد، فعاثوا في الخلافة، إلى أن ضغطوا عليه بتولية ابنه المأمون من الأم الفارسية بعد الأمين، قصد تغليب أقلية فارسية على أغلبية مسلمة، أصبحت ذليلة إلى أجل.
هذا ما أدى إلى تبخر الأمل عند مخلصي الأمة في الحفاظ على الحرية الحقيقية، والقضاء على الوصايات الأجنبية، والعودة إلى القيم الأصيلة.
فالرئيس محمد مرسي رحمه الله لم يضبط مؤشره جيدا، وتذبذب في الاستوزار، لعله يكسب ود الجميع، فدبر ضده الانقلاب المعروف، ولم يشفع له إشراكه أعمدة النظام السابق.
لكن إذا صرفنا أبصارنا تلقاء رواندا لأخبرنا حالها اليوم عن طبيعة الوجهة الواضحة غير المتململة، لنظامها الذي استطاع توحيد صف شعبه.
وإلى سنغافورة التي كانت خرابا فعمل رئيس وزرائها {لي كوان يو} بحزم مع الإصلاح في كل الجوانب، دون تردد بين اللوبيات المختلفة.
ومثل ذلك وضوح الرؤية عند الرئيس صدام حسين، والدليل ذهاب الدولة بعده. أدى الوعي في العالم الإسلامي إلى رؤية طمع الأقليات الفاسدة، والعملاء منهم، في المكاسب الوزارية، دونها إثارة الشعوب، وما العلاقات المشبوهة بالدوائر المختلفة بما ينسف القيم، وبالمخافر الغربية في دهاليز المقرات الحزبية والسياسية في العالم المتخلف إلا دليل. فالتاريخ يخبرنا عن الذين ضبطوا أنفسهم مع وجهة شعوبهم فالتحموا بهم وسادوا معهم، والذين تقاطعوا مع وجهات شعوبهم بسبب التذبذب في الأداء خوفا من الأقليات النافذة، ورغبة في ثقة الأغلبيات، أوالعكس، فانكسروا.
إن مواقف السلطة موافقة أومخالفة أواهتزازا كاشف عن طبيعة تكوين حكام متظاهرين بقيم الأمة بدون اقتناع، أوخاضعين لإكراهات الأجنحة المتصارعة، فيقعون في حرج تأثيرها، ولو بالخروج من العهود المقدمة إلى شعوبهم.
يوضحه تسييرها المتهاوي لسلوكات رعاياها، فلا يمكن وصف سلطة بالقوامة وهي تغض الطرف عن مظاهر مخالفة للحكم الراشد، وما الدعوة الجهرية للتبعية مثل شيعة اليمن، والانفصال، والاقتتال العشائري القبلي مثل ليبيا، وتضارب القرارات والترخيصات بين يوم وغدٍ، وغيرها، إلا شواهد على واقع يومي مؤلم لشعوب أصرَّ حكامها على إرضاء الجميع المتعاكس، وهو غاية غير مدركة.
فلا مناص لأية سلطة في عالمنا الإسلامي بالخصوص، من كشف وجهها الحقيقي، وبيان ولاءاتها، حتى يوطن الناس أنفسهم.
يعجبني في هذا المقام كلام الدكتور العراقي الشيخ أحمد الكبيسي بُعَيْدَ الاحتلال الأمريكي، حين وجد ظنون الناس في الاحتلال خافقة، فقال لهم: وطنوا أنفسكم فأنتم محتلون.
كي يعرفوا واقعهم، ويضبطوا آمالهم، إن أرادوا التحرر، لأن تباين الملامح الفردية والجماعية في طبيعة الوضع تضيع النظر الصحيح إليه.
الشعوب المخلصة ترفض لعبة الأرجوحة التي تتجه إلى الأمام صوب الأغلبيات، وإلى الوراء صوب الأقليات المعاكسة للقيم الأصيلة.
لقد أباد المحتلون أبناء الأوطان دون تمييز بين موالٍ مخبرٍ، ومتبرىء مخلص صادق، مع وضع العملاء في الصفوف الأولى وجهة أوار الحريق رغم الإذعان.
فليعرف الحكام للأصل قيمته، وللميل تجاه هذا ثم هذا وضاعته، وليعلموا أن الأقليات المؤدلجة المتظاهرة المتمسكنة بمعاني الحرية والديمقراطية، إذا تمكنت جارت، وأحرقت، وأدمت، وأزهقت.
إن استغفال الأمة لن يدوم، لأن غفوتها مجرد نومة مرهق، فضميرها حي نشط شغال،، ويوم اليقظة، ولو متأخرا، هو أوان العض على الأنامل، من التفريط فيما كانت مَكْنتُه بين مقابض اليدين، وحينها فلن ينام مضيع الصوب الواضح، والهواجس تخزه، وتقطع ليله المظلم.
فهلا تم الاعتبار والعزم على قيادة الأوطان إلى التحرر من التخلف والتبعية، دون مجاملات متنافرة بين هذا وهذا؟
ذلك أملنا على أيدي من قال الله فيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} سورة المائدة.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)} سورة إبراهيم. 
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم