تجديد الخطاب المسجدي

يمتعض البعض من مصطلح التجديد في الإسلام، توجسا من التمييع، لعدم العلم بأنه إعادة إحيائه بأساليب جديدة مشروعة، تبغيه نصاعة ونورا، وتقوي الجاذبية إليه، فالأساليب والوسائل الشرعية ليست من الثوابت، لأنها متغيرات التطبيق وتحديثه، حسب الزمان والمكان والبيئات والظروف.
فالاجتهاد إن لم يتح في الثوابت، فإنه متاح في طرق التطبيق، إلا ما قيدته النصوص.
ألتقي مستمعين جيدين لدروس وخطب المساجد، يلاحظون قلة خطاب الترغيب، الدافع إلى التعلق بالله وما عنده من نعيم الدنيا والآخرة، وتضخيم خطاب الترهيب.
الخطاب المسجدي شامل لكل ما أتت به الشريعة، لكن لو سبرنا نصوصها لوجدناها أكثر تشجيعا على المباحات، ومن أدلته قوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} سورة الأعراف، هكذا بالعموم.
أما قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} سورة الأعراف، فهو بالتفصيل، لأنها قليلة لا يضيق بها كتاب ولا مقال.
والقرآن إذا تحدث عن الطيبات ذكرها بالإجمال لأنها كثيرة لا تحصى، بينما يسرد المحرمات بالبيان لأنها قليلة يمكن حصرها،، فهو ليس للتفصيل، إنما لرسم الكليات والقواعد، إلا قليلا.
وحديث {الحلال بين والحرام بين}، واضح في البدء بالحلال لكثرته، مقارنة بالحرام.
التقيت أحدهم، فقال لي لست بخير، استفسرته، فقال كيف أكون بخير، وأنا أدخل المسجد يوم الجمعة بعد أسبوع من الذنوب، لأجد نفسي خارجا منه إلى جهنم؟
يستمع الناس غالبا للتخويف دون التحفيز، يدخلون بعض المساجد مثقلين بالذنوب، راجين استفراغ أنفسهم منها فإذا هم يخرجون مستشعرين قربهم من جهنم.
وإزاء هذا فنحن في حاجة إلى مراجعة خطاب،، يُغَلِّبُ طرح المباحات على المحرمات، ويدعو إلى رحمة الله.
بحاجة إلى من يقول للمستمع افعل تجد، استمتع بالمباحات تغنم، لا إلى {لا تفعل لأنك ستعاقب}.
وإن كان من ضرورات الخطاب التحذير من الفساد، لكن لا ينبغي أن يطغى على خطاب الترغيب.
لأن الترهيب دون بديل الترغيب إقعاد للناس عن التعلق بالله أداء.
الإسلام نشر الرحمة، والرسل بعثوا بها، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 107} سورة الأنبياء.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ 175} سورة النساء.
وآياتها كثيرة في القرآن، فكيف ينأى عنها الخطيب إلى آيات العذاب والعقاب فقط؟
ولو شرح كل جمعة آية منها لفرح المؤمنون بفضل الله.
قال تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} سورة الأعراف.
قال الله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} سورة يونس.
ما يضيرنا لو نشرنا نصوص فرح الله بعباده التائبين؟،، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؟،، والوعد أكثر من الوعيد؟،، والجنة ونعيمها أكثر من النار وجحيمها؟،، والثواب أكثر من الذنوب؟،، والمكافآت أكثر من العقوبات؟ مع استبدال المبالغة في الورع بشيء من البشاشة في الوجوه؟،، والمبالغة في الخشوع بشيء من الفرح بما عند الله من نعيم؟.
نعلم حقيقة أن التشريع يحوي كذلك نصوص التحذير، والإعلام بالعقاب، وتحريم المعاصي، والجرائم، لكن تحلية الناس بالطاعات، وسعادتها، يشغل غالبيتهم بها عن غيرها، إلا من أبى، وحينئذ يعلم أنه لا يلومن إلا نفسه، لأن الإسلام وضعه في دائرة واسعة من الحلال وهو ضيق على نفسه في سجن الحرام.
الإسلام يدفع الناس إلى منطقة العفو، وليس استخراج مناطات الممنوعات، إلا إذا كان ضررها يعاكس القيم الكبرى للدين.
إنه يهدف إلى تشييع الناس من المسجد بعد الجمعة إلى الجنة لا إلى النار، إلى التبشير لا إلى النعي، وغيرها من المفارقات.
فأرجو أن ينتبه الأئمة الخطباء إلى آفة صرف الناس عن الإسلام، خاصة وأن الكنيسة النصرانية القائمة على مصطلح الخلاص، والفداء من الخطيئة، أدركت هذه المعاني عندما لقبت رهبانها الراحلين إلى الفيافي بالمبشرين، فلا نريد أن تحصل على قدم السبق علينا في هذا الميدان.
من الجميل تجنب صياغة الخطب بنبرات مريضة أقرب إلى الموت من الحياة في القول والتبليغ، لأن الصياغة اللفظية اللسانية الجهورية لها جاذبيتها في الانتباه والفرح بما يقال، والإصرار عليه، والمسارعة في اللحاق بركب الجنة.
بهذا سيصر الناس على العمل، وإتقان الصنائع، وتقوى الله في الوظائف، من شدة الرغبة الجامحة في رحمة الله ونعيمه وجنته، وهو ما يبعد عن الحرام بشكل سلس أفضل، لأن الإنسان مفطور على الحياء من المعطي، فلا يخالفه، وعلى حفظ الأنيق فلا يلطخه، وعلى النعيم فلا يضيعه.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم