خطر وهم المكانة.

اليقين أن الله أبان عن حكمة الخلق، وقال فيها:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات 13].
ومنه أن يعرف الناس قيمة بعضهم، ومكانة نفوسهم، ليقدروا النابغ في أي نافع، فتجري على ذلك مصالحهم، دون أن يكون لأحدهم قصد إلى الترفع، أواستعماله.
إلا أن أفراد طائفة سعوا له، لاستقطاب العوام، وتنصيب أنفسهم محاور الاهتمام، في الأموال، والسلطة بالخصوص، فكان أساس التلبس به في أركان رئيسة، منها الديني، والاجتماعي، والعلمي، والسياسي.
نبهتني سلوكات الرهبان والأحبار، الذين أحكموا السيطرة الدينية على المعابد والكنائس، وادعوا العصمة، فاستخفوا عوامهم، فاتخذوهم أربابا من دون الله، فأحلوا لهم الحرام، وحرموا لهم الحلال، وهو ما اعتبره عبدالله بن عمر رضي الله عنهما شركا رغم كونهم أهل كتاب.
هذا الترسب عبر القرون، عقد فكرة التراجع بسبب اكتسابهم أمجاد بهتان بين المؤتمين، مانعة من العودة إلى الطبع البشري العادي المساوي، رغم يقينهم الداخلي، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} النمل.
إن الحرص على المكانة الوهمية داء روحي عضال، لأن الكثير ممن شملتهم دعوات الرسل إلى الإيمان، احتقروا المؤمنين، قال تعالى {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} الشعراء، {وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} هود.
إن غاية الحرص عليها استمرار الأبهة بين القوم، والكلمة المسموعة، لأن الاستجابة للدعاة والناصحين والأحرار، تعادلهم بهم، وهو ما تعترض عليه النفوس العليلة.
هو حفاظ على تحرر الهوى من سلطان القانون والشرع والعرف الصالح.
قال تعالى {قالوا ياشعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أوان نفعل في أموالنا ما نشاء انك لأنت الحليم الرشيد} 87 هود.
إنها افتراء على النفس، وكذب عليها، وصبغها بالعظمة الموهومة.
إنها من السراب الخادع، المكشوف بعد حين.
يصل أمرها عند الكثير إلى الاستقواء بكل ما يرهب عند المحتذين، من مال وجاه وسلطة.
كحرص فرعون وهامان على مكانتهما بين المستخفين، قال تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)} المؤمنون، وقارون على مكانته بين الضعفاء بأمواله.
والنمرود الذي لم يذعن لحقيقة توحيد يقرها داخل نفسه، حرصا على مكانة التخويف منه لأنه المحيي المميت في ظن عبيده.
زعماء قريش أبوا الإسلام خوفا على الزعامة، ومنهم أبوطالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد فشا فيهم عبارة {ماذا تقول عنا العرب}، لأنهم أصبحوا سادتها في الإباء والمنعة والحرب.
أبو جهل يجهر بها عشية غزوة بدر: {نعلنها حربا نشرب فيها الخمر، وتغني القيان، حتى تسمع بنا العرب فتهابنا}.
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عشية الفتح أباسفيان رضي الله عنه، قبل إسلامه، وهو زعيم قريش، أتشهد أني رسول الله؟ قال:{إن من هذه في النفس لحاجة}،، إنها حشرجة الزعامة لقبيلة لم ينتبه إلى انقراضها، فلم يطق تسليم الزعامة لمن هو أصلح لها، بسبب قياد موهوم.
ومثل ذلك ينطبق على ملالي الشيعة الغاصبين أخماس أموال عوام المذهب، بفرية الانحدار من سلالة فاطمة وعلي رضي الله عنهما، وآل البيت عموما، متلبسين بألقاب سلبت عقول الدهماء المغفلين، كآية الله، وحجة الله، وليسوا مستعدين للتراجع نحو الحق، لاستغنائهم بتزكيات روحية واجتماعية رهيبة.
بعض ممتهني الطرقية مستخدمو أضرحة بعض الصالحين، والزوايا في استغباء الزائرين، والسطو على أموالهم، بل وكل شبهة متاحة للتربع على عروش الأفئدة لئلا تزول حظوتهم بينهم،،، ومعصية الشبهة أخطر من معصية الشهوة،،، لأنها تمنع التوبة والإقلاع عن مكسب تعاظم مع الزمن، بالهوى.
بعض حفظة القرآن يسخرونه للتجوال بين مآتم المكلومين في موتاهم، والقسوة على وضعهم وافتعال إنجاء الميت بقراءتهم مقابل أموالهم.
أحدهم، أعامله بشكل عادي، لكنه يمتعض لأنني لا أقدسه كالعوام، بتقبيل الرأس، وتمجيد الهيئة، ورجاء الدعاء.
بعض الجهلة من أئمة المساجد يلتمسون إيهام الأميين باقتصار استجابة الدعاء عليهم فقط، ليقصدوهم فيوضع بين أكفهم ما لذ وطاب.
والكل يعلم أنه لا أحد يتضرع إلى الله نيابة عن غيره بحرقة وإلحاح، وقد كنت نشرت مقالا قديما عنوانه {الدعاء بين جهل الأمة وتفويض الأئمة}، ونصحت بعض إخواننا الأئمة الصالحين، بضرورة توجيه العامة إلى الدعاء دون واسطة، لأن الله يرى ويسمع، ولا حاجة لأحد في صك غيره، وهو ما أحرص على تلقينه تلاميذي.
الحكام، الباغون، وبالخصوص الملوك والأمراء القابضون على شعوبهم بجمرة التسلط الدائم، صونا لجلالة الملك والإمارة، ولو بالظلم.
قيادات الأحزاب، الجاثمة على مرابض الهيئات، دون تسليم الأدوار إلى غيرها من الكفاءات، لأنها تدثرت بالتزلف لمختلف الهيئات، ومنها دوائر السلطة.
لقد أصبحنا نرى من لا يستسيغ تحوله إلى مناضل بسيط بين إخوانه، لأن كثيرا من المكاسب المشبوهة غير الحلال المكتسبة بالمكانة ستتبخر.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى ذهاب كل هذا بين المؤمنين، لصدق النبوة وإخلاص التبليغ، وكان كثيرا ما يدخل مناطق النصر ورأسه بين كتفيه طأطأةً، وانحناء لربه، وشكرا على التمكين، لأن المكانة المرجوة هي ما دام عند الله غير المؤقت.
ومن طلبها عند ربه، وعاش للناس، أكرمه الله بالقبول بينهم.
بعض زعماء الغرب يستقيلون ولا يخشون على المراتب بترك المناصب للمؤهلين، فأوقعوا المسلمين في حرج لسبقهم إلى فضيلة الاعتراف والتنحي، قبل أن تطردهم الجماهير.
دون غمط البعض حقهم، ومنهم الرئيسان الجزائريان يوسف بن خدة رحمه الله، واليمين زروال المستقيلان من أعلى منصب في البلاد، دون خشية ذهاب الهيبة، بل زادهما عزا.
إن استمرار المعنويات على هذه الطباع الخسيسة، لن يدفعنا خطوة إلى الأمام، بل سيضاعف العلل، ويعفن القروح، ويؤجج الصراعات، ويشعل الحروب، ويؤذن بالخراب.
والعلاج في رأيي يكون على المستوى الروحي، بيقين اعتقاد القضاء والقدر مع السعي الحلال، وأن ما كتب من أصناف الرزق حاصل بالعمل المقبول المشروع ولو بدون الهالة الموصوفة أعلاه.
وعلى المستوى العملي، فحين يصدق الزعيم الديني، أوالسياسي، أوالاجتماعي، ويتفانى في خدمة الشعوب، وبذل الوسع في جلب راحة العوام، وبسط الرحمة عليهم، وسد خلتهم، سيحصل عليها ولو لم يبغها،، فقد كان أبوبكر رضي الله عنه يخدم عجوزا كفيفة دون علمها، ولا علم أحد من المسلمين، إلى أن فارق الحياة، فعظم ذكره.
ومنه نضال الحرية، والتحلي بكامل معانيها، والتشبث بها، ومنحها للناس، في الإطار الأخلاقي، لينعتقوا من سلاسل الطغاة، وأغلال الظالمين، ولو كانوا في أعلى المناصب الاجتماعية والدينية المختلفة، للحد من استعلاء الزعيم بالظلم والقهر والافتراء، وادعاء القيمة الزائفة، وحرمانهم صفة القدوة، وسد أبواب الاتباع من غير حق وصواب.
والله المستعان.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم