تأثير مصدر الصراع

إن قوما من قريش أيقنوا الحقيقة، لكن مصدر الصراع الأول مع نبي الرحمة، وترسبات (ماذا تقول عنا العرب)، كبلهم عن الإذعان، لكن غيرهم لم يربطوا مصيرهم به، بل جملوه بالإيمان لتحصيل منافع الدنيا والآخرة، حين وجدوا أن ما استحسنته وقبحته عقولهم بشكل سليم، أقره الإسلام ونظمه في أحكامه المضبوطة.
يعرف عن أبي الحسن الأشعري خروجه من حلقات المعتزلة، وبناء مذهب فلسفي، وعقدي، جديد.
فأصبح التحسين والتقبيح العقليان من خلافاته معهم، لكن لم يطق بعض الأشاعرة التراجع بعد وضوح الخطأ بسبب سطوة مصدر الصراع، فأوجبوا مخالفتهم عينيا.
الخارج من النزاع يعسر عليه التوسط، فيجد نفسه متهجما على كل ما يصدره منافسه، وعلى منازعة مصدره السابق لإثبات ذاته، وتعليل موقفه، والتدليل عليه.
بعد تراجع الإمام أبي حامد الغزالي رحمه عن منع التحسين والتقبيح العقليين، تخوف من نسبته إلى التأثر بالمعتزلة، فحذر منه.
وقل مثل ذلك عن السياسة، ومختلف الهيئات، المتنكرة لما عند الخصوم من الفكر بعد سابق خلاف، خشية وسمها بهم.
لقد تهكم قادة على منافسيهم، وسفهوا أحلامهم، وحرضوا عليهم، ولو فيما قَبِلَهُ العقل، لئلا ينسب إليهم وفاقهم، بعد سبق صراع.
ومثله يقال عن الطوائف المذهبية الحالية، فالمبادلات العنيفة في مختلف المناسبات هي المهيمنة على المشهد، لأن المصدر السابق يخالف المذهب المعتمد.
لذلك تولد الغض عن الالتفات إلى الوراء، خشية اكتشاف انحراف الطريق، ومنح الخصوم فرصة الإفحام.
فقد تصلبت آراء طوائف الحراك، وشحت عن التنازل، أوالنظر إلى خطأ سلوك طريق ما، حتى أضحى الشك رائد النظرة إلى كل صغيرة وكبيرة مخالفة، فلقاءات الفرقاء بأمل التوافق، أضحت مصدر مشاحنات، ومؤامرات خفية، سببه الحاجز النفسي.
إصرار كثير من أنصار الأندية الرياضية على ادعاء الصواب، ونسبة كل نقيصة إلى الهيئات والحكام، زاد حدة التنافس إلى درجة العداوة، وإذا تبين الخطأ، صبوا جام الغضب على المسيرين، كيلا يذعنوا لمصدر الصراع.
إلا المعتدلون الوسطيون، المعترفون بكل ما يبدو صحيحا عند الغير، الذاكرون آراءهم، دون عقدة التعيير بالتراجع، في إطار الإثراء، مثل معتدلي المذاهب الفقهية من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية.
فلا جرم في نظري من وقفات للتقويم، لعل جزء من المنظور كان مضببا، أوتم إخلافه، أوالغدر به، لكبح النكاية في مصدر الصراع، والإمعان في مناقضته، واستمرار نصرة أمل مُغَشَّى بالسراب، معلق بالأوهام والخيالات.
لقد منع ذلك الكابح النفسي الكبير، والجدار المعنوي السميك، رأب تصدعات قوى إسلامية، بسبب ترسبات صراع قبلي، وصعوبة الانفكاك عنها، أواستعلاء الهيمنة على الآخر، الحاجبة عن التفتح نحوه.
عمليات الإصلاح بين الأفراد والهيئات والطوائف تنتهي أحيانا بالتعافي، لكن لا تتوقف تلك التحفظات المكبوتة، والانتصار للذات سرا، والغيبة الهاشمة خفية، لأن ما في النفوس من علة ولو يسيرة، تأبى الخضوع لصحة مذهب الآخر بعد سبق اختلاف.
إن مصدر الصراع السني الشيعي، صد الإقرار بصواب بعض الجزئيات هنا وهناك، والإعلان عنه، تحاشِيًا للتسبب في تهمة الانتساب إلى المنافس، وانتصار حجته.
ستُضَيِّعُ عقدة الإباء مع مصدر الصراع بستر الصواب والحق، على الأمة كنوزا قيمة، وتحرمها منها.
كنت في أحد أروقة الجامعة المركزية مع الأستاذ الدكتور محمد دراجي، نتحدث عن مصادر العلم، ذكر لي موقفه الوسط فقال: (آخذ من كل مختص اختصاصه).
فلو عملت الطوائف بهذا القول، وتراجعت عن إلغاء علوم المخالفين، بسبب تناطح جزئيات، لها أدلتها ومرجحاتها، ــ ولم نؤهل بعدُ لمخالفتهم ــ وأخذت من كل عالم اختصاصه، لأفادت من تراث علمي كبير، لكن الحمية المذهبية، تأبى ذلك، وتأثير الاعتراف بمصدر الصراع، يعطل آلة الإقرار، وإذا حدث فبالتخفي.
لذلك لابد من إشاعة فكرة التمسك بالحرية الفردية والجماعية، إن بدا الحق، أوالصواب عند الغير، والجهر به، وضرب الإشكال المعنوي عرض الحائط، لأن الانتساب الحقيقي المرغوب يكون للحق والصواب، لا للأفراد، أوالهيئات، والأحكام منوطة بالمنافع والمفاسد، ثباتا وتغيرا، لا بشيء آخر.
وقد يبدأ هذا العلاج من النظرة العادلة قبل مفارقة المصدر، موافقة أومخالفة، عند بعض المتحررين حقيقة، وعدم التحجر على الراسب النفسي، والانعتاق من الالتزام الحزبي والجمعوي فكرا ورأيا، والتخلص من إلزامية كثير من اعتباراتهما غير الموافقة، لتكون نقطة بداية الاستقلال النهائي، والجهر بالحقائق في منظور الباحث، وترك التخوف من التراجع، وعلاج النفس من آثار مصدر الصراع.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم