ضحايا قيل وقال

 قبل التحاقي وزملائي الأساتذة بالخدمة الوطنية العسكرية في الإطار المدني، حذرنا المجربون من فخ الأخبار، لكننا وقعنا في التساؤل عن نهاية فترة التدريب، للعودة إلى الديار، شوقا للأهل والأولاد والأحباب، ومع الإجابات الواردة من مصادر معلومة ومجهولة متضاربة، أصاب بعضَنا الانهيارُ المعنويُّ، لأننا لا نعلم شيئا عن أسرار الجيش، ما أفقدَ معظمَنا توازنه من التأثر، إلى أن حَلَّ الموعد فجأة، فأدركنا تعرضنا للتمرس على الحرب النفسية بمسرحيات محاكة، ربما عمدا من قيادات، أومن عناصر خبرت تأثير القيل والقال، أوسهوا من زملائنا تمسكا برجاء الانتهاء.
إن صَدَّرتُ مقالي هذا بتلك التجربة، فلكي أبين أن جلَّ الناس (ولستُ في منأى عنهم)، تهب عليه رياح القيل والقال ولو من بعيد.
فلا غرو، لأنه حدث لخير أصفياء الأرض بعد النبيين، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في حادثة الإفك، بدرجات متفاوتة.
فقد ورد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ. رواه البخاري في صحيحه.
أردت إسقاط كلامي على الشعب الجزائري الذي عايش الكثير من الابتلاءات، كانت أشدها ما يعرض المرء للقيل والقال، والسؤال، يصبح فيها الناس على: ماذا قالوا اليوم؟ ماذا حدث اليوم؟ أوبالعامية (واش راهم يقولوا؟).
وأخص منها فترة 22 فبراير 2019 إلى اليوم.
إنها في رأيي من أكثر فترات الجزائر التي عرضت ألسنتنا للقيل والقال والسؤال، الذي تتلخص أسبابه فيما يلي:
1/ العبرة من محرقة التسعينات والخوف من العودة إليها.
2/ الرغبة الجامحة في التحرر من الوصاية الأجنبية عموما، والفرنسية خصوصا، فأهل الخير، دائمو التساؤل الداخلي حول هذا الأمل.
3/ الرغبة المتعطشة إلى بناء الجزائر المنشودة على الأسس والقيم المشروعة.
4/ نضج وطني وسياسي لم يكبح جماح القيل والقال.
5/ أفعال وردود الطرف المحلي المعادي للثوابت لدى العملاء، وفئة من العلمانيين، نقل الصراع إلى ذلك.
6/ اهتزاز قيمة التورع الروحي، بوصفات متسافلة، لم يسلم منه حتى بعض الخيرين.
7/ الوفرة الإعلامية بآلاتها وآلياتها الضخمة، ويسر وسرعة وصولها إلى أبعد بيت، أوكوخ، أومؤسسة، أوشركة، أوغيرها، مقارنة بالعصور الغابرة، فلانكاد نجد خبرا إلا ويجرُّ وراءه التساؤلات والقيل والقال.
هذه الأسباب في نظري تمخضت عن سلوكات ظاهرة، منها:
1/ الكلام عن مفجر الحراك،، الماسك بعصب البلاد وتسيير الأزمة،، المرشح الرئاسي الأوفر حظا لدى الفاعلين،، مصداقية الفائز،، المسار الحالي،، مصير الدستور،، طبيعة مرض الرئيس،، الحرب النفسية حول عودته من غيرها،، موقف الجيش، الإرهاصات المستقبلية، وغيرها.
2/ الحيرة الكبيرة لدى المخلصين لهذا الوطن.
3/ التكذيب المستمر لكل ملمح تغيير، بناء على التجارب المسرحية السابقة الفاشلة.
4/ التناقل الكثيف للأخبار، صحيحها وسقيمها.
ما نهى التشريع الإسلامي عن القيل والقال، إلا لأنهما من أكبر المحطمات لتاريخ الأمة، وحاضرها، ومستقبلها، تداولهما يشكك في ماضيها، ورجالاتها، وعلمائها، وأبطالها، يثاقلانها، ويقعدان أفرادها في الأرض انتظار ورود الإجابات على التساؤلات، فيعطلان فيها الإقلاع، لجهالة المسار تارة، وعنت الطباع أخرى.
وما وقع بين المسلمين إثر حادثة الافتراء على أُمِّنَا عائشة رضي الله عنها من مسطح بن أثاثة وأبي بكر رضي الله عنهما، وغيرهما خير دليل.
فإذا أرادت الأمة ضمان السلامة من كل ما سبق، لا أرى لها في تقديري إلا ما يلي:
1/ تفعيل الدور الروحي المؤثر في التورع، لتقليل القيل والقال، ما دام غير نافع، فإنه لا يمكننا التحدث عن مادة اسمها الإسلام دين الدولة، ثم لا تحول إلى سلوك من السلطة بالدرجة الأولى.
2/ ترشيد العمل الإعلامي، برفع مستوى تكوينه وأدائه.
3/ تحري الخبر الصحيح، في القنوات العمومية والخاصة، والتوقف عن المزايدات، والتحفظات.
4/ رفع السلطة شيئا من التحفظ عن مختلف الأهداف المقصودة بالقيل والقال والسؤال، لقطع دابر الفتن المتوقعة منه، وقطع الطريق أمام كل أشكال الادعاءات بلا حجج، ومثال البث المباشر بالنت خير مثال.
إنني على يقين، أنه لو تتوفر النية الصادقة عند السلطة نحو الشعب الذي كلفها بتسيير الدولة، لتبادلت عنصر الثقة الإعلامية معه، وتوقف الكثير من القيل والقال، وأُمِنَتْ التضحية بالشعب التواق إلى كل جديد، وقطع دابر فتن داخلية نفسية ومعنوية، وقُضِيَ على الحيرة التي تنتاب الوطنيين الصادقين مع بلادهم، وأقلعت سفينته نحو المعلوم الحضاري المنشود، ببوصلة واضحة، وما ذلك على الله بعزيز.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم