السلطة والأخلاق

لم يُؤْثَرْ عن دين ولا مذهب جاء لتتمة الأخلاق إلا الإسلام، والحقيقة الميدانية الواقعية الشاهدة المشهودة، أن مجتمعا نشأ في بيئة قاسية محترقة الجبال، نادرة الأشجار، كثيرة الأحجار، عابدة الأوثان، قاتلة لأتفه الدواعي، غليظة الطباع، تحوَّل في طرفة عين إلى سيد العالم، إنساني الإحساس، مرن المزاج، لذيذ المعشر، رقيق القلب، باكي العين، ذليل الجناح، باذل المهج، مستشير الصحب، قائم الليل، طيب المأكل والمشرب، حنون الجنان، سامي المقصد، راحم الضعيف، بشيء واحد فقط هو الأخلاق.
ولا غرو إن ورد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ مَسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ) رواه الإمام أحمد.
قال لي أحد الأحباب يوما (أنا لا يهمني صلاتك ولا صيامك، لأنها بينك وبين الله، لكن اعطني أخلاقك، لأنها بيني وبينك) وهو صادق، لأن أقوى رابط بين البشر في الدنيا هو الأخلاق.
ولا غرو أن مدح الله تعالى نبيه بالقول: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ). سورة القلم.
أكتب لقرائي هذا الكلام بعد حيرة تملكتني عن مستقبل هذه البلاد في خضم اعتلاج أخلاق الناس عموما، والمسؤولين خصوصا، فتساءلتُ وأنا أُسَمَّعُ الهفوات اللسانية، وتسريباتها المدمرة، المعبرة عن خبايا مكنونة، مع سلوكات عنجهية تجاه البسطاء، (أين مستقر بلادنا بهذه النماذج؟).
رأيت الوزير في السبعينات وأنا صغير، مثالا لرمزية الدولة، يتحفظ، لا يبدر منه لغو، ولا لغط خارج عن قيمة المنصب السياسي، لأنه يمثل السلطة، كان ينظم له حفل استقبال مثل الرئيس، بالجماهير والأعلام، ولفظة (يحيى الوزير) تدوي الأرصفة، لا يُسْمَعُ منه إلا طيب الكلام، وإذا خفي من سريرته شيء يبقى بينه وبين أقرانه أثناء اللقاءات الشخصية، لا ينفث بسمه في الرسميات، والزيارات التفقدية التفتيشية.
ومثل ذلك يقال عن المدير، والوالي، ورئيس الدائرة، ورئيس البلدية، وغيرهم.
واليوم تولى الحال على عقبه، وخر علينا السوء من فوقنا، وأتانا البلاء رأي العين، وأهان الهوان علينا شكيمتنا.
هذا وزير يقول للناس ودون تحفظ: (يلعن بو اللي ما يحبناش)، وكأن محبته تكليف شرعي.
ورئيس حكومة يقول (جوع كلبك يتبعك)، وكأنه في بادية بور.
ومنظم تجمع: (اللي ما عجبوش الحال يبدل البلاد)، وكأن البلاد تركة مُوَرِثِيهِ، وأخالها كلمة كانت قارة في جنانه، تسربت في لحظة استشاطته.
ومتلبس تمثيل العمال يسب دين الله والناس في لقاء رسمي.
ووالٍ ينهر أستاذة ويهينها بسبابته، ويدير لها ظهره.
ومدرب وطني ينتفض في وجه سائله إذا أحرجه.
وكل هؤلاء وغيرهم محرجو الرئيس لأنه الحافظ لوديعة الشعب، وأمانة الثقة الانتخابية.
دعيت يوما إلى تجمع إحدى المنظمات الوطنية الشريفة، فما كان أن رأيت وسمعت من ممثليها للأسف، أثناء المداخلات، إلا اللغو، والتدافع السيء، ما جعلني أنصرف سريعا مصابا بالدهشة.
وغيرها من مناسبات فاضحة طوايا سيئة، تَفْجُرُ بمجرد الغضب، إلا من رحم الله منهم، وأرجو أن يكونوا الأغلب الأعم، المغطي بظله كوارث الأقلية.
فإلى أين نتجه يا سادة؟
هل سنتمكن من تربية جيل يرى ويسمع القدوات المفترضة تتمرد على مبادئ الرأفة؟
هل يستطيع الأستاذ في مؤسسته إقناع التلاميذ والطلبة بضرورة طاعة هؤلاء، وتنفيذ أوامرهم، وهم يرونهم أول من تغلبهم هفوات الألسن؟
هل يتأتى لحكماء المجتمع وعقلائه غرسُ الاقتداء، بمن يخالفون أبسط قواعد اللباقة وينهرون الناس، ويقهرونهم؟
والله تعالى يقول:(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ)؟
هل يلتفت السيد وزير الاتصال إلى المسؤولين لينكر عليهم الإساءة، كما أنكرها على الصحافة، ورواد مواقع التواصل؟
ألا ينبههم إلى الالتزام بقواعد التحفظ، وضبط الأعصاب مع فئات شعبية غلبتها الفاقة، وأنطقتها الحاجة، وقهرتها مشقة الحياة؟
سرني تدريب بعض الجمهوريات الآسياوية المسلمة مواطنيها على مناسك الحج، فينزلون على بقاع الحجاز مثالا في الصواب، والالتزام، والالتحام، والتصوير الأخلاقي الجماعي.
فهل تعيد السلطة النظر في تولية هذه المناصب، بالتأكد من مجموعة مؤهلات تلمع صورتها، وتزينها للناظرين؟
وهل نجد منها مستقبلا رسكلة تدريبية للمؤهل المعنوي الأخلاقي؟
لا أظن ذلك متحققا إلا بالعودة إلا القواعد الإسلامية في هذا الشأن، كما ورد أعلاه تماما، إذا أردنا أن يُصْنَعَ على عينيْ الله تعالى خلفاؤه في الأرض، وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضى لنا [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (55). سورة النور.
وإلا فنحن أمام حتمية ضياع الأخلاق.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم