بين اللغة الرسمية واللغات الوطنية.

قال الله تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ? إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22)] سورة الروم.
أعبر في هذا المقال عن قناعتي الإسلامية،، عابرا الحواجز، مكسرا مكامن الحرج، متحررا من الانحياز، لأن خطي العقدي الواضح يمنحني الكلام براحة معنوية،، لا كالكثير الساكتين، الهامسين من وراء جُدُرٍ، المحاذين لحواشيها، إرضاءَ جهةٍ، وخشيةَ ثانية، وتملقَ ثالثة، وهذا أراه مجحفا في حق نصاعة القضية، وفائدة الإثراء التي يغيبونها، ويحجبونها عنا اجتماعيا وتاريخيا.
أطرح الموضوع بسعة أفق، ووسع فهم، دون تعصب رأي، ولا نتن الجاهلية كما وصفها نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأقصد به كل الجزائريين في المساحة الوطنية كلها لا بعضها.
في كل مناسبة احتكاك وطني شعبي يبرز للسطح مختلف التفاعلات والانفعالات البينية الكامنة.
مضى الحراك الشعبي، وامتزجت فيه الناس، وغصّت بهم الشوارع، ثم حلَّت الرئاسيات، وبعدها اقترح التعديل الدستوري المرفوض في نظري، وحدد موعد الفاتح من نوفمبر 2020 بحول الله لتنظيم الاستفتاء.
ميز التجاذب الوطني حوله بعض البنود لا كلها، ومنها قضية مقالي هذا.
ليعلم الجميع، أن المواطنة في الإسلام مكفولة لكل ساكن في الإقليم، مهما كان دينه، وعرقه، وجهته، ولغته، وعشيرته، وطبعه، ولونه، وغيرها من المكونات البشرية،، ووثيقة المدينة المنورة التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الهجرة شاهدة على هذا.
لقد منح الإسلام (وليس غيره) للمسلمين، واليهود، والنصارى، والمشركين، العيش تحت كفالته وقانونه وعدله، بالضوابط القانونية المعروفة وعلى الأخص عدم الغدر بالدولة الحامية.
قال الله تعالى [لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى? إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ? وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)] سورة الممتحنة.
لم تضق الدولة بأهلها، لأن المشجب واضح، والمرتكز واضح، والعقد واضح، والمحور واضح، والاتجاه واضح، وهو العقيدة الجامعة المانعة، والمقدس هو القرآن والسنة، والشخصية في نبي الله صلى الله عليه وسلم هي الموحدة، إلى أن استمر الوضع كذلك في العصور الذهبية للمسلمين.
لم تلغِ الوحدة إقرار الاختلاف العرقي، والجهوي، والقومي، واللغوي،،، تحت لواء الجامع المانع وهو الإسلام وفقط.
كان بين المواطنين عموما والمسلمين خصوصا لاهجو اللغات، كالحبشية ممثلة في بلال، والرومية ممثلة في صهيب، والفارسية ممثلة في سلمان، والعربية ممثلة في سائرهم، وحتى حذيفة بن اليمان تعلم العبرية للترجمة، ولم يكن في ذلك حرج.
فهل التعددية اللغوية الوطنية عندنا مشكلة؟
مما لابد أن يعلمه إخواننا العرب، والقبايل، والميزاب، والتوارق، والشاوية، والشلح، وغيرهم، أنه لابد من التفرقة بين اللغة كلسان لصيق، بأصله وعرقه، واللغة كوسيلة رسمية للتعامل الإداري والسياسي في الدولة.
من الضروري فهم استحالة، بل تحريم سلخ الإنسان من أصله، لذلك أرفض من يريد قهرا فرض عرقه على غيره.
الإسلام لم يأتِ إلى الجزائر لتعريب الناس، بل تعاون سكانها من العرب والأعاجم مع الفاتحين، كما لم يعرب بلاد فارس والهند والسند والصين، والروس، والأذريين، وأوربا، والأمريكان.
إن الإسلام لم يمنع أحدا من لغته الأم، ولا عرقه، ولا أصله، لكنه جمع الناس حول لغة رسمية تضمن عدم انحراف المجتمع عن غاياته المطلوبة، خشية التفرق، بل جعل ميزان التفضيل هو التقوى وفقط، لما ورد عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ) رواه أبو نعيم، والبيهقي.
فقد نجد التقي التركي، أوالأفغاني، أوالباكستاني، أوالروسي، أوالهندي، أوالسندي، أوغيرهم أفضل عند الله، ثم عند العقلاء، والحكماء من العربي الفاسق، والعكس.
واصطبغت الحياة بانصهار الأخوة التامة تحت هذه المظلة، وداخل هذا الإطار.
إن التعدد اللغوي الوطني الشعبي لا يعيق الحياة أبدا، وها هي أمم كثيرة تعيش هذا النموذج، كما يعيشه الجزائريون اليوم.
إنما الذي يعيقنا هو التعدد اللغوي الرسمي والإداري، فلا يمكن لدولة تدار بأكثر من لغة،، خاصة إذ تعلق الأمر بلغة تعجز عن مستوى اللغات العالمية بلاغة ونحوا وأدبا وغير ذلك، وهذا ما يعلمه إخواننا في كل ربوع القطر، ولذلك شددت فرنسا وإيطاليا وألمانيا والصين على الوحدة اللغوية، مع وجود لغات محلية.
رئيس الوزراء (لي كوان يو)، يوحد السنغافوريين باللغة الإنجليزية، رغم أنه من الأغلبية الصينية.
إن تعدد اللغات التي تصاغ بها القرارات في الأمم المتحدة، كان يحرج ممثلي الدول عندما تكون الدلالات مختلفة.
وأقرب من ذلك مثالا، التعديل الدستوري الذي صيغ باللغة الفرنسية، ثم ترجم إلى اللغة العربية، فأخرج نصه ضعيفا ركيكا مبعثر الدلالات، متضارب المواد.
إن ما لا يريد بعض إخواننا الاقتناع به هو الفرق بين حق كل مواطن في التحدث بلغته أولهجته، وبين استعمالها في التسيير الإداري.
إن المسلم يتمسك بالعربية لكونها لغة القرآن، ولو كان لسانه الأصلي غيرها، دورانا مع كلام الله حيث دار،، لا لقومية عربية.
يوجد في غرداية الميزابية الحرص الكبير على الدراسة والتدريس باللغة العربية، حتى في المدارس الإباضية الخاصة،  نحوا وصرفا ولغة وبلاغة وشعرا وأدبا، بل نبغ فيها علماء أجلاء، ومفسرون، لأنهم وجدوها لغة رب العالمين، رغم اختلافها مع لغتهم الأصلية الأم التي لا يمنعها تدينهم.
لقد نبغ في بلاد ميزاب جهابذةُ علمٍ، كالشيخ المفسر ابراهيم بيوض رحمه الله، والشيخ الفقيه اللغوي الأديب المفسر أبي إسحاق اطفيش رحمه الله، وإبراهيم بن يحي الحاج أيوب القرادي رحمه الله، والشاعر مفدي زكريا رحمه الله، والشيخ الخطاط محمد بن سعيد الشريفي، وغيرهم.
ونبغ في بلاد القبايل علماء نذكر منهم كل مرة، الشيخ أحمد حماني رحمه الله، والدكتور محمد الشريف قاهر رحمه الله، والعلامة أبو يعلى الزواوي رحمه الله، والشيخ الطاهر آيت علجت، والدكتور سعيد بويزري، وغيرهم.
بجاية كانت أول مدينة في تاريخ الإنسانية يؤسس فيها معهد إسلامي للطب والحكمة والجراحة باللغة العربية وإستمر الأمر إلى ست مئة (600) سنة كاملة، وكان من طلبتها فرنسيون، وإيطاليون، ويونانيون.
رغم أن التعديل الدستوري الذي أعارضه، وأرفضه، أشار إلى استبعاد واستحالة الترسيم النهائي للتعددية اللغوية  بسبب صعوبة بلورة جميع مكوناتها عبر ربوع الوطن لاستنساخ لغة واحدة،، إلا أن إصرار الكثير على الازدواجية اللغوية ليس راجعا إلى التعدد اللغوي بحد ذاته، بل راجع في رأيي إلى:
1/ تأسيس القومية العربية التي فصلت العرب عن الأعاجم المسلمين  فاستنفروا أنفسهم للنضال وفرض لغاتهم وكياناتهم، وإثبات هوياتهم.
2/ إخلاف وعد الثورة التي قامت على التكبير والشهادة وتحكيم شرع الله ثم وجد الناس التمكين للقومية مكان الشرع.
3/ الفهم الداخلي الأعرج للمسألة، أين التعصب القومي الذي يقابل منطقيا بردة فعل معاكسة،، حتى كثرت الدعوات إلى مصطلحات الإقصاء، وهذا في رأيي ما يزيد الطين بلة، والرأس صداعا، والوطن انقساما.
4/ التآمر الخارجي على البلاد باستغلال مختلف العناصر والفرص لتقسيمها.
والمشكلة في رأيي كذلك تكمن في لغة عربية قرآنية يراد لها المسخ، والحرب، والحذف، اعتداء  على الإسلام، لأن الغرب ومن سايرهم من الجهلة والعملاء والعلمانيين، تفطنوا لدورها في التمكين له.
إن المشكلة في تعددية لغوية يراد بها ميراث الاستعمار عبر كتابتها بحرفه، كي لا تتآخى مع الحرف العربي.
ولو وعى الجميع مصدر وحدتنا، وبوتقة انصهارنا، ومكمن أخوتنا وهو الإسلام وعقيدته، لما طرح الإشكال أبدا.
الإجابة: إن إشكال تعدد اللغات في رسميتها، لا في وطنيتها.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم