المدرسة والإيديولوجيا.

تتسم العلوم غالبا بالفارق بين التجريب، والتجريد، والرأي، دون نكران فوارق أخرى.
ولأن البيئة لها دورها في تمايز التناول العلمي، وما يجربه ساكنة التلال، لا يجربه قاطنو الصحاري،، فإن المدرسة الجزائرية تفترق عن غيرها هي الأخرى، لأنها تقع داخل مجتمع مسلم.
ولذلك من الغرابة أن تزعم أصوات نشاز الدعوة إلى إبعاد التعليم الجزائري عن الإيديولوجيا، في مقترحات الدساتير وغيرها، إذا كان القصد منها الأفكار العقدية.
ولا أكون مسيء الظن إذا قلت إن ذلك نتيجة انهزامية أمام القوى العلمية العالمية المتفوقة علينا لتقهقرنا، الداعية إلى هذا الطرح، مثلما تضيق على التعدد اللغوي والحكم الذاتي، داخل أقطارها، وما مثال كاتالونيا، وكورسيكا إلا خير شاهد، لكنها تتآمر على غيرها بتقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، بتكثير اللغات، وتوزيع مناطق التمرد، وكم سمعت على سبيل المثال الرئيس ماكرون يستنكر فتح المجال اللغوي الرسمي، بينما يدفع إليه في الجزائر.
لا أرى التركيز على حيادية التعليم إلا تخوفا من تناول المسلمين العلوم بالطرح الإسلامي، فالمراد منه تحييدها عن الإسلام فقط، ولذلك تدرس عندنا مادة العلوم الإسلامية بالتقوقع داخل فقهيات شخصية، ومواضيع غير مؤثرة على الطابع العام لعلمنة التلميذ، مع المراقبة التي تحول دون تدخلها في الشؤون الأخرى؟
كما يراد إبعادها عن الأفكار السياسية والآراء الموجهة للأمة، رغم أن المدرسة لا تخلو من مؤطرين منحازين ومنتمين، مع وجود مواضيع وملحقات في بعض الأطوار، كالانتخابات والحقوق المدنية وغيرها، بالرؤية السلطوية وتفسيرها، بعيدا عن الرأي المخالف.
ولا أرى ذلك إلا للإيهام بالعلمانية وشبح الموضوعية، وراء ستار التدين الصليبي واليهودي في حقيقته.
ولذلك يريدون جرنا إلى اعتبار رسالة الإسلام مجرد فكرة كسائر الأفكار، نتناولها بلوثة الموضوعية كي نقبل بعضها، ونرد البعض.
وبيانا للتناقض والتآمر وعدم مصداقية هذا الصنيع، فدروس التاريخ وتفسيراتها ليست بعيدة عن التأثر والتأثير الإيديولوجي، ولا يوجد أساتذة حياديون في طرح الأحداث التاريخية، بسبب اختلاف القناعات والأفهام والمعطيات.
وكذا دروس الفلسفة ليست بعيدة عن التأثيرات الفكرية، ولا يوجد أساتذة فلسفة حياديون أثناء طرح الرؤى والمذاهب الفلسفية،، أتذكر في هذا المقام ونحن نقارن بين المذهبين الرأسمالي والاشتراكي، كيف رجح أستاذنا بينهما موظفا قناعته الواضحة.
إننا لا نجد من يتحكم في الالتزام بالعلم المجرد وفقط، بعيدا عن توظيف الميول الشخصية والفئوية والعرفية والعرقية والمذهبية.
ولأن الإسلام يدرك ذلك جيدا، قضى على هذه اللوثة الفكرية ووحد الأمم تحت راية العقيدة الإسلامية النافعة.
لقد وجد الكثير من الأساتذة المرجحين لأفكار، ومواقف، ومذاهب، وأدلة، ومعطيات على أخرى، ميلانا مع القناعات الخاصة.
فليس من الحق الفكري والعلمي تدريس العلوم التجريبية في الفلسفة والعلوم الطبيعية بعيدا عن منبعها الرباني بوهم الموضوعية والتجرد، وليس من الذوق العلمي إبعاد إشارة المدرس في اليقينيات إلى الحسم الرباني.
لأنه من الخطأ الجسيم العلمنة الفكرية للتلاميذ وتدريبهم على عداوة العقيدة بحجة الحياد والموضوعية.
فإن الغرب الصليبي والكيان اليهودي الذين يقلدوننا هذا الشعار على رقابنا، هم أبعد الناس عن التمسك به أثناء التدريس، فلماذا نستجيب بحمدهم ودعواهم؟ ولنعتبر بالصورتين المعبرتين أدناه.
ولذلك حاربوا التنوع الإيديولوجي بحجة موضوعية العلم، وأشعلوا الحرب على التلميذات المحجبات، رغم أنه من الحريات الشخصية عندهم، ومن الفروض الشرعية عندنا.
واهتموا بمادتي التاريخ والدين بانحياز شديد للعقائد القائمة عليها، مع استغفالنا بتحييد عقائدنا.
لا أراه إلا دالا على التخوف والتوجس من مصداقية عقيدتنا وقوة نفوذها وصلابة حجتها.
ولا أراه إلا دالا على التخوف من تسرب القناعات إلى أفرادهم وجماعاتهم بالإسلام مع تماسك المجتمع الإسلامي بالمقابل، ومن ترهل كياناتهم، وكأننا مع شبه بعض بنود صلح الحديبية لتفريغ ساحة المسلمين وتعمير ساحتهم.
نعم قد يخشى القائمون على مدرستنا ذلك الصراع الممزق لصفوف التلاميذ، لكن حتى البلدان والبيئات والمناطق والأعراف تختلف، لذلك الواجب أن يتم الأمر بتدريس العلوم موازية للدين والعقيدة والروح الوطنية، كي نفوت على من يستغفلنا نجاح حيلهم وتمويهاتهم لنا.
لذلك في رأيي أن ندعو إلى توحيد التحييد، لا تحييد التوحيد، بفرض السلطة القائمة على برامج التعليم، العقيدة الدينية لبلد مسلم، توازيا مع العلم الفكري والتجريبي، ردا منه وإليه، لنربح الدين ونسوس الدنيا به، مثلما تفعل السلطة مع توحيد المرجعية الدينية بفرض التمسك بالمذهب المالكي.
لأن الأمر بالحياد العلمي ما هو إلا مجرد فتح باب التصادم المضمر في تناول المسائل العلمية بحرية تفسيرية وتحلل في قراءة معطياتها.
بل هذه الدعوى هي التي فتحت المصراع أمام خطر تعدد الرايات الضرار في الجزائر، ولو قضي عليها في مهد المدرسة، ما تجرأ عليه جيل بعض المناطق.
وهي التي أباحت للوزيرة بن غبريت أن تقول "المدرسة ليست للصلاة"
إني أدعو إلى توحيد صفوف الطبقة المتعلمة بفرض الاتجاه العقدي الواحد المناسب للأغلبية المسلمة، مع حرية الفهم، والاجتهاد داخل هذا الإطار، بدلا من تمزيقها تقليدا لمن لا يريد الالتزام بما يدعو.
فإنه والله مميز لشخصيتنا الإسلامية الواضحة، كي لا نكون كالغراب الذي ما قلد سير الحمامة، وما عاد إلى سيره.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم