في تجديد الخطاب الشرعي

بعد هذه الوعكة الصحية العالمية، وتأثيراتها على مختلف المجالات، كثرت تكهنات المستقبل بعدها، والاستعدادات له،،، لكني وجدت الكثير يركز على الجانب المادي الاقتصادي، وموازين القوى في العالم، والأقطاب الجديدة المتوقعة، ولم أسمع الحديث عن المستقبل البشري، رغم العلم أن أساس البناء هو قيمة الإنسان، التي لا أراها متأثرة إلا في ظل الدور الديني، لأننا جربنا سهولة الإفلات من الجانب المادي، والقانوني، والانفعالي، والوجداني، والعاطفي، إلا بالتغلغل الروحي العقدي في قلوب الناس، واعتباره مؤشر التخطيط والتهديف والتحرك.
وإن كانت بعض المنابر الدينية في المساجد والجمعيات وغيرها، شاركت بشكل فعال في الوقاية والتوجيه والتعاون على البر والتقوى، رغم التغييب الإعلامي المتعمد، إلا أنه لا يعفيها من الانتفاض، وبلورة خطاب جديد يرقى إلى القيادة الاجتماعية، معتمدا على الثوابت والأسس المقدسة، جمعا بين المأثور، والمأمول.
وإن كان البعض يتحفظ من فكرة التجديد الديني، خشية تمييعه، فإنه لا يعني بالضرورة التغيير والإلغاء، إنما هدفه الإحياء المناسب لأحكام الشرع في واقع الزمان ومستقبله، بأساليب ووسائل متطورة لها السلطة الأدبية على المتلقي، والمتدين.
ومجالات التجديد كثيرة، لكنني هنا أقصد الإيصال، والتبليغ، والتأطير، ضمانا لالتفاف المجتمع حول قيم الدين والتدين، والنهوض بها لتحسين مسار الحياة، بدل ترك المجال لغير المسلمين، أوالمعادين لهما من العلمانيين بالخصوص، ودفعها نحو حياة سعيدة أفضل، وتنصيبه قائدا للبشرية، بمفاهيم أكثر وضوحا عن الله والكون والحياة.
كل ذلك بصياغة حسنة نافذة داخل أعماق العقول والقلوب، نثرا، أونصا، أوخطاب منبر، أومحاضرة، أوندوة، أوسلوكا جمعويا، أوغيرها يتكاتف فيه سلف وخلف، حاملة للغة والعلم والثقافة المعاصرة،، لتظهر دلالات نصوصه القطعية ومعلوماته الضرورية بقداستها، وهذه من الثوابت التي أشرت إليها أعلاه،، مرتبا الأولويات، لأن كل ظرف يخالف الآخر، ليكون مقتضى الحال هو الدافع إلى الاجتهاد في الصياغة المناسبة.
مع تمحيص الأخبار، بدل تلك القصص المستوحاة من المصادر الغارفة من ضعيف المنقول وموضوعه، ما يسيء ويشوه كثيرا انطباع مستخدمي العقول التي تمج تدينا يقوم على الدجل والكذب والضعف الروائي، الذي يغلب عليه خطاب الموت المرغوب عن الإكثار منه، لتغليب معاني ما يحيي، لأن الإسلام دين إحياء كل شيء أكثر من التخويف بالموت، فكثير من متصدريه يتقن فن الحديث عن الموت والقبر واليوم الآخر، ولا يتقن فن زرع البذور الصالحة في الحياة لحصد ما ينجي الله به بعد الموت،، وبهذا يمكن إضفاء الصبغة التعبدية عليه بالمعنى الحضاري، لأنه دين بعث حضارة سامية في شتى المجالات، مخالفة تماما لما كانت عليه البشرية بين العرب والعجم والفرس والروم وغيرهم، بهدف خلع صفة الخنوع عنه وعن البشرية، واستعادة قداسته، وتكريس استقلاليته، تحررا من سلطان مختلف الحكام، ليتوجه ملزما لهم، مثل إلزام العوام،، كي نصل إلى تطهيره من الولاءات غير الشرعية، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين.
يتطلب ذلك إعادة شموليته، كي لا يبقى محصورا في الوعظ والإرشاد الروحي فقط، أوبعض الفقهيات، بل يحمل المفهوم الحقيقي:
للدين، الحاكم على الحياة بالنصوص والاجتهاد.
وللمتدين، المحكوم بها تعبدا، لنقضي على انحساره فيما يعد على الأصابع.
فأين الإشكال إذا تطرق الخطاب الديني إلى العقيدة والفقه والأخلاق الفردية والجماعية، مع التعليم والتربية، والتجارة والصناعة والاقتصاد والسياسة والإعلام والرياضة، والثقافة مبينا صحيحها من سقيمها، والتقنية، والسلم والحرب، وكثير مما يستحيى التعرض له باسم الدين؟
وكأني بيد خبيثة جرَّت المهتمين بشأن الإسلام إلى السير على هوامش الدنيا، حتى تسلل إلى قناعاتهم أن الزهد فيها وفي ملذاتها يعني استقباح هذه الجوانب، حتى ضاعت حضارة راقية بهذه الخطط المدسوسة، وضاعت على الإنسانية معالم كبيرة جدا، وفرص عظيمة خسرتها بانحطاط المسلمين، كما بينها أبوالحسن الندوي في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين".
مع ضمان توازنه بين فئات المتلقين، لأن ما يقدم لفئة، قد لا يصلح لفئة إلا بأرقى منها، أوأدنى، وما يقدم في مناسبة يختلف عن أخرى.
يضاف إليه التمييز بين:
الخطاب الديني البشري، والوحي المعصوم، فالصواب والخطأ أثناء العرض الذي يتحرى الإيصال السليم بشري، وليس إلاهيا.
وبين أنواعه، ليتميز جوهر الإسلام وظاهره عن الخطاب النصراني واليهودي.
مع التماس عذر الاختلاف في الاستنباطات من نصوصه الظنية، لأن منبع أغلبها الفهم الذي تختلف فيه العقول المفكرة المجتهدة في استخراج الأحكام منها، أومن المصادر الكثيرة،، وذلك يتأتى بضبط برامجه ومناهجه، فإن كان الخطاب الديني في التربية والتعليم مبرمجا رغم نقص كفايته وعدم الرضى عنه، إلا أنه في مواطن كثيرة غير مبرمج، ولا ممنهج، لأن البرامج والمناهج وترتيبها ودقة تصميمها ووضوح أهدافها، هو الذي ينصعه وييسره ويحيله تنفيذا ميدانيا بحب وشوق.
بهذا وغيره مما لا يتسع المقام لبسطه، يمكن لنا السير طويلا بأمة اشتاقت إلى سالف أيام وعهود أستاذيتها على العالم، لنصل إلى الإمساك بمقود الرأس البشري.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم