العدل مأوى الشعوب.

قد يقرأ الفرد عن قيمة من القيم، لكن إدراكه لها لن يكتمل إلا بمخالطتها ميدانا.
وقد يقرأ عن رذيلة لكن لا يتألم منها حقا إلا إذا سلبته نعيم الفضيلة.
حكى لي أحد الأقارب بعد حجه في الثمانينات، عن معاني السيرة النبوية التي وجدها ماثلة في جبال مكة، ووهاد المدينة، ومفاوز الطريق بينهما، وجبل أحد، وأرضية بدر، والمسجدين الحرامين، وغيرها من الأماكن التي ذكرته بها وكأنه يستوعبها لأول مرة، لأن المنظور يصدق المسطور في كثير من الأحيان.
كثير منا يقرأ عن عدل النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وسائر الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، لكن ملامسة قيمة العدل تطابقت في ذلك الزمان عند أهله قولا وعملا، وفي عصرنا لا تخط سبيلا إلى قناعاتنا إلا برؤيته حيا في واقع شعوبهم.
ولأن كثيرا من المسائل لا تعرف إلا بالأضداد، فقد ينتبه إليه الفرد بتمييز الفرق بين العادل والظالم المستأثر بخير الدنيا ومنافعها، وإن لم يكن ظالما فمتكاسل عن حق رعيته وخدمتهم، لا يقهر أحدا، لكنه ذو بلادة في تحصيل المنافع له، ودرء المفاسد عنه.
المناسبة الأليمة في لبنان وتداعياتها منبهة إلى هذه المعاني، لأن اللبيب هو من لا يقصر بصره نصب الحدث فقط، بل نحو أسبابه وآثارها.
ومنها ذلك الاستقبال الشعبي لكل من الرئيس الفرنسي، ونائب الرئيس التركي، دون تمييز بين مذاهب، ولا أعراق، ولا قوميات، وليس المقصود التمييز بين الزخمين الشعبيين.
إنما الملفت السريع عند أهل الحكمة والتبصر، هو سبب احتضان طائفة من اللبنانيين للوافديْن.
هل سيعانقهما شعب هائج لو احتضنه حكامه بحب وعطف وحنان وعدل ومساواة ومواطنة للجميع؟
هل كان طرف من شعب لبنان ليفتح الأذرع والمصاريع العريضة راغبا في عودة الانتداب الفرنسي، وطرف منه يهلل، ويشعر الرايات للمبعوث التركي، لو وجد نفسه على قدم المساواة الوطنية مع المتسلطين على رقابه؟
هل كان يفعلها لو لم يضق ذرعا بالشخصيات اللبنانية المزدوجة الجنسية تستأثر بالمال والثروات والفيلات الفارهة؟
هل كان يفعلها لو لم يجد نفسه يصارع الجيوب للحصول على لقمة عيش غالية جدا؟
هل كان يفعلها لو لم يخنقه حزب الشيعة بحصاره للجنوب، حماية لحدود دولة الكيان الغاصب؟ وافتعاله الأزمات كلما لاح فجر التحرر عنه، أومحاسبته؟ 
لا أشك في تورطه هذه المرة بعد قرب انتهاء التحقيقات في مقتل الحريري التي تشير إلى بصمته فيه.
هل كان يفعلها لو لم يجد نفسه رهينة التجاذبات الجيوسياسية الأجنبية في عقر داره؟
هل كان يفعلها لو لم ترهن مصيره المجالس النيابية المتتالية؟
هل كان سيفعلها لو لم يضيق عليه الدستور والعرف اللبناني حرية اختيار الأغلبية رئيسها؟
هل كان يفعلها لو لم يذق مشاقة السلطة ومحيطها السياسي له؟ 
عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، رواه مسلم.
السؤال نفسه ينطلي على دوافع قوارب الموت والانتحار في البحار البالعة فارين من بلدانهم نحو المجهول.
لا أظن شعبا يلقي بنفسه في عباب البحر دون ضمان الوصول إلى الشواطىء الآمنة، من التقام الحيتان،، لو ذاق عسيلة العدل واستعذب عسيلة المساواة في بلاده.
لا يفعلها لو ترنح بين أحكام عادلة، ولو على نفسه إذا أخطأ.
لا يفعلها لو رأى حكامه يتقاسمون معه الحلو والمر.
لا يفعلها لو شارك حكامه الصفقات، والثروات، والرواتب، والعقارات، والمصانع، والموانىء، والقصور، والمنتزهات، ووسائل الراحة، والاستخدام، والتوظيف في كل المؤسسات بالمعايير المقبولة، ومصير البلاد، وغيرها.
لا يفعلها لو تساوى عند حكامه كل جهات البلاد فيما سبق ذكره.
لا يفعلها لو استشير في المسائل الكبرى، كالحرب والسلم والعلاقات والدساتير والانتخابات ومشروع المجتمع، والتربية والتعليم، وغيرها.
لا يفعلها لو وجد لكلمته الحرة نفوذا إلى إصغاء الحكام، الذين لا يلهجون بكلمة فرعون المستبد، [قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)] سورة غافر.
إن العدل إذا خالط واقع الناس ويومياتهم جعلهم يحنون إلى بلادهم وهم فيها، يعشقونها وهي في قلوبهم من شدة الولاء والثقة بينهم وبين حكامهم.
إن العدل يورث الأنفة، ويغني عن الهجرة والرحيل، وحتى المغادرة ولو لحاجة السفر، لأن يقينه بجنة يعيشها يعيقه عن جهنم يؤوي إليها.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا. رواه مسلم.

الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم