المساجد بين تلكؤ السلطة وشوق الأمة

لقد تفهم الجزائريون قرار تعليق الصلاة في المساجد بسبب شراسة وباء كورونا، ومع ذلك مكثوا يترقبون بداية تلاشيه، أوضعفه، لعلها تفتح لهم مصاريعها، وتحضنهم من جديد، كيف لا وهي ملاذهم، وبيوتهم التي تعلقت بها قلوبهم؟
لكنني وبعد القرار الذي صرح به سيادة وزير الشؤون الدينية والأوقاف، باستمرار غلقها إلى أن يزول الوباء، وبعد السجال الخفي والظاهر بين السلطة ومريدي المساجد، وحتى المغالين والمتطرفين في معارضته، متهمين إياه بالاشتراط على الله، متجاهلين الاحتكام إلى الظاهر فقط، ظهر لي أن الأمور متشابكة، تتجاذبها العناصر التالية:
الوباء:
اضطراب قرارات السلطة:
فعل الجانب المعادي:
المطالبات الشعبية العاطفية:
قوة دور الوزير:
انضباط المصلين من عدمه:
لا شك أن الوباء له تأثيره الهالع، الذي أجبر الناس المحتاطين على المكوث في بيوتهم، وقاية من العدوى.
ومع ذلك فالسلطة واقعة في اضطرابات إجرائية بسبب حداثة عهدها بالحكم، وانعدام خبرة التعامل مع الأحداث المفاجئة الخطيرة،، ولو لا قصر مدة الأوبئة السابقة لعانينا كثيرا،، ولا يخفى علينا دور التردي الاقتصادي في إقدام وإحجام القرارات المختلفة،، والتأثير العالمي بطرق كثيرة، معلنة وملتوية،، ومنها الماسونية التي تساعدها هذه الفرصة.
ولا يقنعني أحد بعدم ارتياح القوى العلمانية بهذا الغلق،، والتي لم تستطع صرف الناس عن مساجدهم مهما فعلت، كما أتاحت لها هذه الفرصة السارة،، ولا أستبعد دورها، مراهنة على عامل الزمن لعله يؤدي إلى جفاء قلوب الناس عن بيوت الله.
فمن الناحية العاطفية كلنا نطالب بفتحها لعل المصلين يتضرعون إلى الله ليفرج عنا، لكن من ناحية أخرى أنا يهمني أن يقال مات الناس بالعدوى في الأسواق، ولا يقال ماتوا بها في المساجد.
ومن باب الإنصاف لا ينبغي إغفال طبيعة كثير من المصلين، الذين سيعيقون ضمان الانضباط، وقد جربنا أنه كلما أقيمت الصلاة كثر سعالهم، الذي يسرب العدوى بالرذاذ، ناهيك عن تهاونهم في ارتداء الأقنعة.
وإن كان بعض اللوامين يلقون بالعتاب على السيد وزير الشؤون الدينية، إلا أن ذلك يعد غفلة عن مصدر القرار وهو السلطة وليس الوزير، لكنني أساند الإكثار من لومه بهدف ضغطه على السلطة بالسند الشعبي(ولا أظنه يفعلها)، فالذين يخاطبون الوزير إنما يجهلون صاحب القرار، أويتغاضون عنه.
وما كان على السيد الوزير أن يحسم في القضية إلى زوال الوباء، لأنه يمكن ربط فتحها بعقد ملتقيات للقائمين عليها، أوإصدار تعليمات، في كيفية التعامل مع المصلين وتنظيمهم، تجنبا لانتشاره داخل المساجد وانسحابه إلى خارجها.
تماما كما نظم الديوان الوطني للامتحانات لقاء تربويا للسادة المفتشين المشرفين على مراكز الإغفال.
لأننا لو سألناه عن القصد من نقل القرار لتمسك بمقصد حفاظ الأنفس ولساق لنا الكلام العريض في مقاصد الشريعة والفقه ومختلف الأدلة الكلية والتفصيلية.
وإذا طلب منا مراعاة المقاصد النبيلة للشريعة الإسلامية للإنسانية كلها، فبأي ذريعة تتمسك السلطة باستمرار غلق المساجد؟ وما يقع في الأسواق، وطوابير مراكز البريد، والمحلات الصغيرة والكبيرة، وحتى الملاعب الجوارية، وخروج أنصار شباب بلوزداد إلى شوارع العاصمة احتفاء باللقب، دون أدنى شروط الانضباط الصحي والوقائي، وبعض المؤتمرات الحزبية المرخص لها، وقصر مدة الحجر المنزلي، مع عدم احترامه، وقاعات الانتظار عند الأطباء، والإقدام على امتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا، وغيرها من تجمعات الناس أشد وأنكى وأسرع للعدوى.
وهل حفظ الأنفس خاص بالمصلين دون غيرهم من طبقات الشعب؟
والمعروف في شريعتنا أنها إنسانية كما هي إسلامية، إذ تراعي مصالح الناس كلهم وليس المسلمين، أوالمصلين فقط.
هذا لا نفسره في نظري إلا برفض من ضعفت علاقته بالمسجد، كالعلمانيين وغيرهم، بحجة جاهزة هي الخوف على صحة الناس، ولو بطرق مدسوسة، لذلك لا أظن هذا التحفظ جاء من فراغ.
وكم سمعنا عن العقلانية في التحليل، والسلوك، والإصلاح، والتخطيط، ألا يعتبر هذا القرار الحاسم دون نظر، أواستقراء، أواستشارة موسعة بعيدا عن العقلانية؟
أنا مع تحكيم العلم، والقرار الطبي الصحي، لكن حتى اللجنة العلمية المكلفة بمتابعة الوباء لا يجوز لها إغفال الجانب الروحي، أواستبعاده من عناصر الحل، والعلاج، لأننا في الأخير خاضعون لإرادة الله التي قد تسوقنا إليها الأدعية المتضرعة المغيرة للقدر كما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ادْعُوا فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ» رواه الطبراني، وعنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ، رواه الحاكم.
ومنها ترسيخ معاني الرجوع إلى الله، ولا أفضل لها من مكان مقدس مثل المسجد، وينبغي أن نكون أمة عاقلة مؤمنة.
أرجو من السلطة النظر الجيد المتفحص للبلاد وطبيعة الوباء والجانب الديني والعقدي وحتى الإنساني، وغيرها من العوامل.
كما أنصحها أن تفعل على الأقل عملية استشارة، ودراسة علمية سريعة،، كي لا تجد نفسها في دوامة بسبب التفريط في مقومات الأمة، التي بها تتجسد كثير من جوانب الخير وفضائله، ومنها الجانب الأخلاقي الذي لا يضمنه إلا المسجد، ولو بنسب متفاوتة، لأنه بدونها سينفلت العقد من يديها، وتضعف سيطرتها على الوضع لو تدهورت أكثر مما نرى ونسمع، بسبب تفويت الاستفادة من تربية المسجد ولو بالشيء القليل.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم