لتجديد أصول الفقه الجزء الثالث

العرف:
لا أرى العرف إلا مبينا كيفية تطبيق الأحكام غالبا، لا منشئا لها بالأصالة.
العادة اطراد سلوك الناس في مسألة معينة على نحو خاص بحيث تنشأ منه قاعدة قانونية غير مسنونة، والتي تتصل اتصالا مباشرا بالجماعة، وتعتبر وسيلة فطرية لتنظيم تفاصيل المعاملات ومقومات المعايير التي لا يقيدها التشريع بسبب تشعبها أواستعصائها.
وقد يعرف بأنه العادة الجماعية، قولية كانت أم عملية.
قال الإمام السرخسي: (فكل ما ورد به الشرع مطلقا ولا ضابط له فيه ولا في اللغة، يرجع فيه إلى العرف).
قال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228] ، فالله تعالى لم يحدد شيئا معلوما أو قال كم تعطى؟
لم يقل، فقد أحاله إلى العرف، فإذا كان من عادة هذا المجتمع ألفا، والمجتمع الآخر جرت العادة فيه بمائة، ولكل مجتمع عادته وعرفه، فلا يحكم على هذا المجتمع بعرف الآخر.
وقوله تعالى: (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 232] ، هل قال كيف يتراضون؟ هل قال: لابد أن يتراضوا بهذه الطريقة؟ لا.
فإذا اصطلحوا على طريقة مشى عليها العرف الذي بينهم، المهم أن لا يكون هناك شيء حرام خلاف الشرع، ولذلك يقولون: الصلح سيد الأحكام، وهذا من تطبيقات قاعدة العادة محكمة.
ويقول تعالى أيضا: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة: 231]، في هذه الآية أحال على العرف، ولم يقل أمسكها على وصف معين، إنما أمسكها بمعروف أوفارقها بحسب ما جرى عليه العرف.
وقال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19] ما قال للرجل من أهل البادية أنت عاشر زوجتك كما يعاشرها الرجل الذي في الحاضرة، فكل أهل جهة بحسب عرفهم.
ومنه قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [المائدة:89] لم يبين قدره، فأحال إلى أوسط ما نطعم به أهلنا، قد يكون الواحد طعامه في اليوم رغيفا وجبنا، في أغلب الأيام، فالواجب عليه في الإطعام هذا، وقد يكون الواحد طعامه في أوسط ما يطعم به أهله مثلا أرزا ولحما، نقول هذا أوسط ما تطعم به في حقك أنت، وهكذا.
ودليله في الأحاديث:
من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الطويلة في حجة الوداع، قال: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»( أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم).
جاء في الكافي في فقه الإمام أحمد في الكلام على المضاربة:(وعلى العامل عمل ما جرت به العادة بعمله له، من نشر وطي، وإيجاب وقبول، وقبض وثمن، ووزن ما خف، كالنقود والمسك والعود، لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف.)
لقد وجدت للعرف دخلا حتى في تنفيذ أحكام الاستحسان.
ووجدته معمولا به عند جميع المذاهب الأربعة بمن فيهم الشافعية الذين استثنوا العرف القولي، إلا أن ذلك في نظري بعد البحث وجدته لفظيا فقط.
هذه الأمثلة الثلاثة السابقة أوردتها باختصار دون فيض الكلام على المصادر أخرى، للتدليل على ضرورة مراجعة علمائنا الأجلاء لتقرير المصادر وترتيبها لعله يقرب الفهم، والأخذ بها، ويضيق مساحة الخلاف في الاجتهادات بالخصوص، لأننا عند مراجعة كتب الأصول سنجد استيرادا لماضي فقهي وأصولي قديم في المواقف من المصادر، وقد نجد منها اختلافا لفظيا فكريا أدبيا فقط، كشرع من قبلنا الذي وجدته مجرد شرع مقيد بموافقة شرعنا، فلم وجوده بين المصادر وهو تابع إما للكتاب أوللسنة؟
وقل مثل ذلك عن المصادر الموجودة لفظا لا واقعا، أواختلف فيها موقفا، وعمل بها واقعا.
ولست أدعي صوابا خالصا لكلامي، إنما هي دعوة إلى مراجعة أصولية ستأتي على الكثير من معالمنا الإسلامية بالتنقيح والانتقاء لإخراجها ناصعة فعالة مسندة المآخذ قوية الإلزام.
والله تعالى أعلم بالصواب وأحكم بالقضاء.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم