لتجديد أصول الفقه2

الجزء الثاني:
بعد أن تطرقنا في الجزء الأول إلى المصلحة المرسلة كدليل متفق عليه واقعا ولو اختلف فيه تدوينا، نتطرق في هذا الجزء الثاني إلى الاستحسان، لنبين أنه دليل متفق عليه كذلك في واقع الفتوى ونتائج البحث الشرعي.ولاختصار التقريب يمكن القول إنه (العدول بالمسألة عن أحكام نظائرها لوجه أقوى) أو(هو الاستثناء من القواعد) أو(هو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي).
وقد رأينا له أنواعا عند الأصوليين، منها الاستحسان بالكتاب والسنة والإجماع والقياس والعرف والعادة والضرورة.
فمن الذي لا يعمل الآن به خاصة إذا تعسر الأخذ بالأصل أمرا أونهيا؟
عندما يبحث الفرد منا على تعاريفه يجدها مبسوطة في كل كتب المذاهب، بما في ذلك المذهب الشافعي الذي ينسب إليه النهي عنه.
وقد نبهنا القرآن إلى ذلك، في بيع السلم على سبيل المثال، الذي هو بيع موصوف في الذمة بثمن معجل، وهو خلاف القاعدة الدالة على اعتبار الثمن دينا لا السلعة، وقاعدة لا تبع ما ليس عندك، وعلمتنا السنة في مسألة بيع العرايا، وهو مقابلة الرطب الجديد من النخلة بما يقارب وزنه من التمر خرصا للفقراء، وهو خلاف الأمر بالتماثل والتساوي والنهي عن ذلك بين الرطب والتمر.
ومنه الاستصناع، فالقاعدة العامة تقضي ببطلانه؛ لأنه عقد معدوم، وإنما جاز للإجماع على التعامل به فيما بين الناس، وهو طلب أحدهم من خبير صناعة شيء، على أن يدفع ثمنه بعد الانتهاء منه وكل شيء من السلع والأدوات على الصانع، وهو خلاف النص، لأنه عقد على معدوم، لكن رخص به استحسانا رفقا بالناس لاعتيادهم عليه.
ومنه دخول الحمام من غيرتعيين الأجرة وتقدير للماء المستهلك، ومدة المكث فيه، فالقاعدة العامة تقتضـي بعدمه لما فيه من الجهالة، ولكنه جاز استثناء من القاعدة العامة، للاجماع الثابت على الإباحة لتساهل الناس عادة في أمثال تلك الأشياء.
وكذا في الشركة إذا سافر أحدهما بالمال وقد أذن له بالسفر أوقيل له اعمل برأيك أوعند إطلاق الشركة فالقياس أن لا ينفق شيئا من ذلك على نفسه أوطعامه، لأن الإنفاق مـن مال الغير لا يجوز إلا بإذنه نصا لكن ترك القياس لاستحسانه عرفا، فله أن ينفق من جملة المال على نفسه في الاستئجار والطعام ونحوهما من رأس المال، لأن عادة التجار والمعـروف منهم الإنفاق من مال الشـركة.
وكتضمين الأجير المشترك عند المالكية، وإن لم يكن صانعا، فإن الأصل عندهم عدم تضمينه، لأنه مؤتمن، إلا أنهم قالوا بتضمينه استحسانًا للمصلحة، وهي مصلحة الآلات، صيانة لها من الهلاك والإفساد تهاونا وتقصيرا منه في حفظها، مقارنة بأمانة السابقين.
وكتطهير الآبار التي تقع فيها النجاسة بنزح قدر معين من الماء منها استحسانا للضرورة.
وكالشروط المقترنة بعقد البيع فالأصل عند الحنفية منعها، إلا أنهم يجيزون الشروط التي جرى العرف بها استحسانا.
ووصية المحجور عليه لسفه في وجوه الخير، فقد جازت هذه الوصية استحسانا، والقيـاس عـدم الجواز، لأنه ينفق من ماله بغير رشد، وكذلك وقفه على نفسه جاز استحسانا، والقياس عدمه، للعلة نفسها، واستحسن، لأن تنفيذ الوصية لا يضره بعد مماته، وتنفيذ الوقف لا يكون إلا لنفسه، فلا يضره ولو لم يكن راشدا.
والغبن اليسير في المعاملات لعدم إمكان التحرز منه، استحساناً للضرورة، ودفع الحرج عن الناس، لأن القياس والقاعدة أن يدخل في الثمن، فأوراق البصل الآن لا يمكن التحرز منها في الميزان، ولا يستطيع البائع عزلها أثناء الوزن.
رغم تحرزنا من قول من هب ودب به، لأنه مظنة إعمال الفكر والعقل وفق قواعد الشريعة ونصوصها.
فمن هو العالم الآن الذي لا يفتي بالاستحسان؟
خاصة وأن جلهم يراعي دائما جلب التيسير للناس، وابتغاء المصلحة، وتوفيرا للضرورة، وغيرها من ملزمات الخروج عن القواعد والقياس الجلي، وفي أوقاتنا هذه بالضبط؟
ولذلك من الذي يرفض استحسان تنظيم مناسك الحج بالقرعة على سبيل المثال، رغم أن القاعدة تقضي بأن كل من استطاع له أن يحج؟
ولأن النصوص متناهية، توقفت بتوقف الوحي، والحوادث لا تنتهي إلى يوم الدين، تستجد أصنافها، ولابد على العلماء من إضفاء الصبغة الشرعية لها كي لا يبقى سلوك بدون حكم فقهي، فلا مناص حينئذ من اتخاذ المصادر المناسبة لاستنباط أحكامها، ومنها هذا المصدر وهو الاستحسان، الذي أراه منشئا للأحكام عند جميع الفقهاء والأصوليين إن تدوينا في الكتب، وإن واقعا في الفتوى والتخريج الشرعي، لذلك أرى لزاما أن يدرج في تصنيف المتفق عليه، كنتيجة للاجتهاد الانتقائي التنقيحي للأحكام وأصولها.
                                                         يتبع في الجزء الثالث بحول الله.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم