لتجديد أصول الفقه1

الجزء الأول.
بعد نشر مقالين حول تأخير ترتيب الإجماع، وحول إمكانية نقضه إن كان معللا بزوال علته، بدا لي ركن آخر لتجديد أصول الفقه الإسلامي، في مصادره المختلف فيها، المصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، وغيرها.
فقد كانت المذاهب المعتمدة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة منذ التأسيس وبعد إثرائها، من قبل الأتباع، متمسكة بمنهجية تشريع وتعليم وفتوى ترتكز على مصادر اتفقوا حولها، ومصادر اختلفوا في اعتبارها، ثم ترتيبها، ومع مرور الزمن، وتطور العلوم والفقه، وضوابط الفتوى، وابتكار الكثير من الأساليب والوسائل الميسرة للحياة، أدى إلى تقلص المسافات بين الأقطار والأمصار، تقاربت معها الأفكار، في الأخذ بالمصادر الأخرى، ولذلك دعوت ولا أزال أدعو إلى ضرورة إعادة النظر، في أصول الفقه، من حيث التثبيت والتمكين والتفعيل والتقوية والتقديس، لا من حيث الإلغاء سبيلا لترك الشريعة أوالتملص من أحكامها كما يبغي العلمانيون وأتباعهم من مختلف الطوائف المحرضة على الإسلام وتشريعه، وأبشر به من وضع لو يصل العلماء والأصوليون والفقهاء إلى حالة التفاهم السريع بسبب انتقاء المصادر الفعالة الواقعية وتقليلها، كي لا يتسع الخرق على الراقع.
ولو تأملنا قليلا في مآخذ العلماء لوجدنا اتفاقا كبيرا في المصادر الدالة على استنباطاتهم رغم تباين مذاهبم.
ولطول مرتقب في ضرب أمثلة على أخذ الجميع بمصادر اختلفوا فيها، وعلى ترك بعض المصادر التي لم تعد دليلا لوحدها، آثرت تقسيم هذا المقال إلى أجزاء، أنشرها تباعا تجنبا لملل طول القراءة على أحبابنا الذين يمكن لهم إثراء الموضوع بنقاشاتهم الأليفة الرائعة التي عهدناها منهم.
المصلحة المرسلة:
لاختصار التقريب، يكن القول إن المصلحة المرسلة تعرف بأنها الحوادث التي لا يشهد لأحكامها دليل بالاعتبار ولا بالإلغاء، فيحكم فيها بالترجيح بين منافعها ومفاسدها، كما علمنا القرآن الكريم في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ ...) سورة البقرة 219، فما نص عليه الوحيان إثباتا أونفيا فلرجحان المنافع أوالمفاسد، ومنه فكل قضية لم ينص عليها الكتاب والسنة ولا قياس فيها، فمآلها إلى الترجيح بينهما.
وبعد هذا البيان المختصر، أقول:
من الذي لا يعتبر المصلحة المرسلة دليلا الآن؟
من الذي لم يعلم أنها دليل يرجح بين المنافع والمفاسد، في المسائل التي لا اعتبار ولا إلغاء لها في الشرع؟
من الذي لا يفتي بأن للإمام أن يفرض على الأغنياء مالاً إذا لم يوجد في بيت المال ما يسد الحاجة؟
من الذي لا يقول بتمديد إجارة الأرض المستأجرة للزرع، إذا انقضت مدة الإجارة قبل حصاده، منعاً للضرر على المستأجِر.
من الذي لا يرخص في اتخاذ الميكرفونات، لإبلاغ وإعلام الناس بالأذان، أوالدرس، أوالمحاضرة، أوالتنبيه إلى خطر داهم، وغير ذلك؟
من الذي لا يقول بوجوب تخطيط قوانين المرور، والاحتكام إليها، حفظا للأنفس؟
من الذي لم يقل بفرش المسجد؟، فما كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفروشاً إلا بالرمال والحصى، ولذلك كان ينهى عن مس الحصى، مع أن هذا النهي لا يزال قائما على من يصلي خارجه.
من الذي لا يقول كذلك بالمنارات، وإن كانت لم تعرف في القديم، من باب مصلحة، إعلام الناس بوجود مكان يصلى فيه وهو المسجد، وبالأذان ليسمعه أكبر عدد منهم، ويعلمون دخول وقت الصلاة؟
هذه أمثلة قليلة توخيا لحصر المقال، قد يستطيع كثير من قرائنا الأعزاء تنبيهنا إلى أمثلة أخرى كثيرة تثبت ما ذهبنا إليه.
فالحق الذي عليه الأئمة الأربعة، وإن اختلفوا في الاصطلاح على التسمية، الأخذ بالمصالح المرسلة والعمل بها.
فكيف تبقى حبيسة التصنيف القديم دون رؤية مجددة؟
لذلك لا مناص في رأيي والله أعلم، من الاتفاق على وضعها كمصدر متفق عليه، واقعا، وهو المعتمد أكثر من المدون، وقد لا نرى جرما أوخطأ إذا أضيفت إلى المصادر الأولى المتفق عليها.
                                                                  يتبع بالجزء الثاني إن شاء الله.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم