الحرية والعدل ضد زعامة الوهم.

سئل الداعية راشد الغنوشي عام 1990م في مؤتمر بقسنطينة، عن عدم اكتراثه بنشاط الشيوعيين، فسأل: كم مقعدا نالوا في الانتخابات المحلية، فقيل له صفر، فقال: هم مجرد أصفار وأنتم تخشونهم؟
اقتلوهم بالحرية.
وكم أعجبني هدوء الرجل أمام عبير موسى نائب الحزب الدستوري التونسي في البرلمان وهي تَفْجُرُ أمامه بسوء أخلاق وبذاءة لسان، حتى أفرغت ما في جعبتها إلى أن خسرت لعبتها القذرة، دون أن يصادر حرية تدخلها.
وكم أكبر جلال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستمع للذي يَفْجُرُ لسانُه عليه.
كل هذا لأن الحرية ترفع الكبار، وتضع الصغار.
الحرية تخرج الأضغان، وتفضح أسباب فشل العاجز.
قال تعالى وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30). سورة محمد.
ولذلك لم أكن متفقا مع اعتقال بعض الشرذمة المعادين للقيم الإسلامية الوطنية، لمجرد معارضة سياسية، ولست متفقا مع من ظلوا ينتظرون الطائرة المقلة لأحدهم مرحلا مسلما للسلطات الأمنية الجزائرية، فما طارت وما حطت، فظهر هو وأتباعه منتصرين بالوهم.
إن الحرية ميزان حقيقي للخير والشر، وعاء العاقلين، وقناة صرف التافهين.
ولمَ الخوف على عقول الناس وهي معيار بين الحق والباطل، وبين الصواب والخطأ؟
لا خشية على قناعاتهم أوتأثرهم، لأن نصاعة الحق والصواب، أجلى من درن الباطل والخطأ.
منح الحرية للطائفتين يقزم المبطلين، ويعزُّ المحقين.
الاهتمام بالهينين، يصنع منهم مشاكسين أبطالا من خيال، ويستنفر التطلعات نحوهم، فيؤول إلى الاستماع لهم ثم اتباع بهتانهم لافتقارٍ في الحجج ضدهم.
وإن كان هذا الكلام موجها للجميع، فهو مخصص للسلطة، إن كانت عادلة، غير ظالمة، لئلا تصنع مريدين للتافهين، عندما تتعامل بالخطأ مع من لا قيمة له في المجتمع.
إن الاكتراث بهم يصرف عن الاشتغال بحشد العقول حول محور الحق.
اللهم إلا باقتراف الجناية في حق الدين والقيم والأنفس والأعراض والمال، فذلك يحل عرضهم وعقوبتهم، ولا نائح عليهم، إذا بان الجرم الذي ينكره الجميع.
وبعيدا عن المواقف السياسية، ومن باب الإنصاف، يعجبني سلوك حركة مجتمع السلم تجاه الأفواه والأقلام المضادة، برص الصف الداخلي عوض تضييع الوقت في الرد عليها، حتى تساقطت كلها، ولم يبق منها إلا أعجاز نخل خاوية، واستحالت هي تنظيما قويا، حافظ على أفراده وروافده.
لم أقرأ آية في القرآن الكريم تأمر بالقبض على المنافقين، ولا بالاشتغال بهم، ولا بحربهم، ولا بالتضييق على حرية أقوالهم، لأن لحنها كاشف، لكنه فضح عوارهم، وبيَّن أمراض نفوسهم، ونهى عن موالاتهم، ولو بالوقوف على قبورهم.
لأنهم تافهون لا يستهلون هيلمان الاهتمام، بل وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يمنع ابن أحدهم أن يقتله خشية أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه.
كل ما في نصوص القرآن والسنة هو تحصين نفوس المؤمنين بالعقيدة الصلبة والإيمان الراسخ، وجعله كفيلا بحماية بيضة الإسلام منهم.
لقد قتلهم القرآن بالحرية، وبانت خساسة أنفسهم لكل مسلم.
وذلك بتحقق شرط منح الحرية المقابلة للدعوة والبيان، عكس ما تفعله الأنظمة الحاكمة عندنا التي تفسح للاعتداء على الإسلام وقيمه ولو بالسكوت، وتضيِّق على الدعاة من لفِّ الناس حول دينهم.
لكن هذا وحده لا يكفي للقيام بالمهمة النبيلة، إنما ينبغي أن يسنده العدل بالشرع والقانون.
الحرب على البغي وإبادته، مع تسليط سيف العدل، وغرس شجرته باسقة الأغصان يستظل به الناس، كفيل بكسب الودِّ، ورد الكيدِ، وإهانة الظلم.
عندما تخشى أيُّ سلطة التفاف الناس حول جهة معارضة، وهي لا تفرقهم بالعدل، فإنها تؤذن بخراب أركانها، وزوال ملكها.
في مصر يرتفع منسوب الثقة المتبادلة بين الإخوان والشعب ضد السلطة، بقيمة وكمية الخدمات المقدمة بجمعياهمت المختلفة.
وتركيا التي كان من أواخر إنجازاتها افتتاح أكبر مشفى في أوربا، وقبله الكثير من وسائل راحة المواطن والأجنبي، جعل الشعب التركي بمجرد كلمة نداء بسيطة يواجه الانقلابيين بصدره، لأنه غير مستعد لأن يتخلى عن وضع عادل.
لأنها لم تأبه بالعربان الذين يصدق فيهم قوله تعالى وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98). سورة التوبة.
إني أنصح السلطة الحالية إن كانت لها إرادة التغيير الفعلي نحو الأصلح، والنية الصادقة نحو بناء الأمة على قيم متينة، وتوفرت لها الإرادة الحازمة نحو العودة إلى الأسس الثورية، والعزيمة الصارمة نحو التحرر الحقيقي، أن تسارع الزمن لخدمة الشعب أَوَّلاً، وإحلال العدل في كل ميدان، في المأكل والمشرب والمسكن والإدارة والتوظيف والقضاء، والتضحية بالنوم والراحة والاستجمام والاستعراض وغيرها من أبهات التسلط، بما يجلب ــ رغم الأنوف ــ ثقة تامة متكاملة الأركان لا بمجرد الكلام وسوق التصريحات.
وأنصح أصحاب الحسابات، والصفحات، والمواقع الإلكترونية، ومجالس المقاهي، والمنتديات النخبوية والسياسية والعلمية والفكرية، وغيرها من المواقع الشعبية، الذين يتبنون الخط الوطني الأصيل الجامع غير المفرق، أن يشتغلوا بالقيم، عوض التافهين من أعدائها، كي لا يصنعوا منهم زعماء وأبطالا دون استحقاق.
وقديما قيل: المعاني تعرف بأضدادها، عرفوا بالحق والصواب، يعرف الباطل والخطأ فيسقطان.
اقتلوهم بالحرية تنتصروا.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم