الفتنة في الدين بين الوهم والحقيقة.

يستشكل على الكثير ماهية فتنة الناس في دينهم، وأسبابها، صدا عنه بالإكراه، وتعطيلا بالحروب والمزالق المختلفة من جهة، والعلوم المبثوثة الجالبة للنقاش من جهة، بين أهل العلم وطلبته، وسؤالات العوام العادية تارة، والمكترثة تارة.
وأصبح كلٌ يميل إلى طرْفٍ يصرُّ على تجنبه رجاء إنجاء الناس منها، بغير اعتدال بينهما.
ساد في الأيام والأعوام الأخيرة نشر مواقف العلماء وطلبة العلم ومريديه والخائضين فيه عن دراية إزاء مسائل تعالج واقع الناس.
وإن كانت وسيلة النشر في بكرة التأليف كتبا ومخطوطات منحسرة دراستها لدى خواص العلم، واكتفاء العوام بالسماع والتلقي والتقليد، للظروف القاهرة المحيطة بذلك المكان والزمان، وعلى رأسها نقص القراءة والكتابة وعدم إتاحتهما لكل الناس مثل عصرنا.
إلا أن الزمان يسير الآن بظروف أيسر، وتطور أساليب العلم بشكل مذهل، وسرعة رهيبة لوسائل نشره.
ما يسمح لكل قارىء كاتب بالاطلاع على كل علم جديد، وانتشرت الآراء فيه، كلٌّ في اختصاصه، مكَّن من امتلاك المعلومة دون تمييز بين أهلها وغيرهم.
ولذلك في رأيي لابد من معالجة الواقع بمرونة، والتكيف معه باعتدال، وتسخيره كي نواكب منح المعلومة رغما عنا للجميع دون ضرر ولا ضرار.
فالآن تنتشر بيننا الطباعة بيسر عما كان عليه سابقا، يمتلكه من أراد، إلى أن أتيح لنا اقتناء الكتاب الإلكتروني برقن بسيط على زر التحميل فيصبح بين أيدينا في ثوانٍ، لا يمسنا فيها نصب ولا لغوب.
كما تسري الفتاوى ومعارضاتها في الفضاءات من مواقع ومنصات تواصل يطلع عليها الجميع بضغطة زر.
فإذا مكثنا حبيسي التخوف من فتنة الناس بسبب تبادل حوار العلم الذي قد يصل إلى إنكار أهله على بعضهم، كما كان يتاح في قديم الزمان، فسنقع في نتائج وخيمة على الدين نفسه ونصد الناس من حيث نظن صونهم، ونسيء بظن الإحسان.
رأيت طائفة فاضلة نرجو دعاءهم تنهى عن نشر الفتاوى الشرعية إلكترونيا، وأخرى عن معارضة ناشريها، وأخرى عن تبادل النقاش والإنكار العلمي، بقصد حسن مخلص صادق خوفا على تدين الناس، ومن إساءة السفهاء لها، رغم أنه لم يك في مأمن كبير واضح زمن الكتاب والمخطوط.
متكئين على ما يرونه أدلة، منها أقوال شيوخنا الأجلاء ممن يعتري أقوالهم الصواب والخطأ، وربما صواب اجتهادي في زمن، يصبح خطأ في زمن غيره.
منها بعض الآثار مثل (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله) وهو في البخاري عن علي موقوفا.
(ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهو في مسلم عن ابن مسعود.
(أُمِرْنا أن نُكلِّمَ الناسَ على قدْر عقولِهم) رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا.
قال ابن قتيبة رحمه الله: وكنا قديما نعتذر من الجهل، فصرنا اليوم نعتذر من العلم.
وإن كان بعض هذه الآثار واردة عن جبال شاهقة مثل عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما، فمعناها تيسير الفهم للناس، وتجنب الصمّم من الكلم، والطلاسم المقفلة، والمصطلحات الغريبة، لا أن يحجم العالم وطالب العلم عن البيان، أوالتحفظ، أوالرد.
ومنها ما ورد أنّ رجلا قال: والله ما كان بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، وكانوا في موسم الحجّ، فهمّ عمر أن يقوم في النّاس خطيبا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تُمْهِلَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ؛ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالسَّلَامَةِ، وَتَخْلُصَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ وَذَوِي رَأْيِهِمْ. قَالَ عُمَرُ:" لَأَقُومَنَّ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. رواه البخاري ومسلم.
وهذا في غير ميدان العلم، بل هو في ميدان التنفيذ وسياسة الدولة بالدين تطبيقا بغية تفعيل الاستخلاف، وهو في حقيقته ما يستجلب استعلاء الأصوات، وبغي الغوغاء، وطمع الرعاع، واعتداء الهمج، أما العلم وتبادله وإثراؤه فليس من قدراتهم حتى نمنع من تداوله.
ومهما استدللنا على ذلك من أقوال ومآثر شيوخنا وعلمائنا الأجلاء، تبقى أقوال وآراء البشر، قد يصلح لزمان غير زمان بعده أوقبله، وهذا معروف في علم الفقه والأصول والمقاصد.
إننا إذا ألقينا نظرة فاحصة على علاقة القرآن بالناس وهو يعظهم ويأمرهم وينهاهم، ويحذرهم، ويعاتبهم على أخطائهم، ويصحح سلوكاتهم، وينبههم إلى أفضلها، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، على محضر ومسمع من المسلمين والمشركين وأهل الكتاب وذوي الإيمان وضعفائه، ولم تطرح أبدا مسألة الخشية من الفتنة بهذا القبيل، ولا التخوف على غير المسلمين من تزهيدهم في الإسلام.
فهذه بعض آيات الله في كتابه أسوقها تقرع مسامع المسلمين تربية وتوجيها دالة على ما أقول.
(ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض....) الأنفال، ونعلم ما حدث في ذلك، من تبادل الآراء بين عمر والبقية.
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) التوبة.
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) الأحزاب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ....) الصف.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) التحريم.
(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى...) عبس.
وكم كان الناس يحاورون حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم في أحرج المسائل، كتغيير مكان معسكر المسلمين في بدر، وسؤال أحدهم المال، وغضب الأنصار يوم حنين من إغداقه على حديثي عهد بجاهلية دونهم، ورغم ذلك لم يطرح أبدا التحفظ على الناس من الفتنة في الدين.
وبالعكس الحوار العلمي، والنقاش المتفتح بين أهل العلم، علمائه وطلبته، أمام بصر وسمع العوام هو ما ينبههم إلى الثراء الفقهي، وقيمة الآداب، وسمو الأخلاق، وعلو التربية الربانية والنبوية للمسلمين.
إلا أن ذلك لا ينفك عن شرط التحلي بالروح العلمية المتبادلة بين أهل العلم، ولو بالعرض ثم الإنكار، مع تبسيط المعلومات وأساليب تناولها دون ما سبق ذكره من التعسيرات المعيقة للفهم والمتسببة في الفتنة المحذورة.
لأننا إذا أغلقنا أبواب النقاش والحوار الإسلامي العلمي الفقهي، فسنؤسس لأحادية البادىء بالطرح، ونمنح له عصمة، تجعله في منأى من المشاكسات، وهنا مكمن الفتنة في الدين تبغيه عوجا لدى الكثير، لا يتميز عن الأساليب القديمة البالية القاهرة لأي اختلاف، لا فرق بينها وبين عادات الجاهلية الأولى.
ولأن توجيه المسألة بجعلها بين خاصة أهل العلم، يعتبر كتمانا عن غيرهم، وهو المنهي عنه شرعا، وقد يتسرب إليهم ما يخفى فيكون أدعى إلى النفور، لاتهام الدين بإخفاء الحقائق العلمية، وفي هذا موافقة للهيمنة الكنسية، وهي فتنة أخرى خطيرة على دين الناس.
قال الله تعالى(رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)) الممتحنة.
وقال تعالى (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)) يونس.
إن النقاش يعرِّف بذهنية وعقلية ومذهب المحاور، ومن شاور الناس شاركهم عقولهم.
ثم إن فتح النقاش العلمي الهادىء المؤدب يجبر المبادر بالطرح على حراسة نفسه ومقاله ودرسه جيدا.
لقد أجبر السلطة على تنصيب لجان رؤية الهلال تمرد الثمانينات ولو استسلم الناس للقداسة لبقينا إلى اليوم نصوم بالحساب دون الرؤية.
لذلك فالتخوف منها بما سبق اعتراضي عليه مجرد وهم مبالغ فيه، قد يحرم الناس المعرفة، يعالجه التوسط والاعتدال في الطرح والوصف، بالأدب الرفيع، والخلق السامي، والتفتح البيني، والأخوة الصادقة، والإخلاص في ابتغاء العلم والتعلم.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

إرسال تعليق

أحدث أقدم