تحفظ على فتوى


لا أحب تكرار المسائل التي سبق إيرادها كلما حلت مناسباتها، إلا أنني تابعت باهتمام منشور أستاذنا وشيخنا الفاضل أخي وحبيبي الأستاذ جمال مرسلي تحت عنوان (قضاء من أفطر سهوا في رمضان) نقلا عن الفاضل، العلامة العامل القدير شيخنا لخضر الزاوي حفظه الله وستره وبارك لنا في عمره.
مفادها وجوب القضاء على من أفطر سهوا في رمضان أذا أكل أوشرب ناسيا، حسب الصورة المبينة أسفله.
وبعد قراءة المنشور ظهر لي اعتراض على الفتوى سائلا الله تعالى ألا أتجشم صعب التطاول على العلم وأهله، كي لا أكون ممن وُصِفوا بقلة العلم إذا أكثروا الاعتراض، فأذن لي من باب حرية الرآي بعد استئذانه أن أنشر هذا التحفظ كما يلي:
1/ لابد أن نعلم أن الشعائر التعبدية موقوفة على النصوص، لا على القياس، فكيف نقيس عبادة على عبادة، من حيث نسيان الصلاة، أووقوع الحدث سهوا، فأين تنبيهنا إلى هذه الحدود مما نحن فيه؟
2/ إن القياس وقع مع الفارق، سواء على ناسي الصلاة، لأن ناسي الصلاة أعدمها، ولم يصلِّ، فلم تقع أبدا، فكان لزاما عليه إيقاعها وأداؤها، أما الصيام فقد وقع بالفعل، بخلل يسير، حتى ولو كان الجامع بينهما العبادة البدنية.
3/ إذا كنا نقيس فلمَ لا نقيس على ما لا يختل بالقليل اليسير المعفى عنه من العبادات والمعاملات؟
4/ إذا افترضنا صحة القياس فلمَ لا نقيسه على الحديث الآتي:
عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أَنا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في صلاةٍ إذ عَطسَ رجلٌ فقُلتُ: يَرحمُكَ اللَّهُ فحدَّقَني القَومُ بأبصارِهِم فَقلتُ: واثُكْلَ أمَّاهُ ما لَكُم تنظُرونَ إليَّ قالَ: فضَربَ القومُ بأيديهم على أفخاذِهِم . فلمَّا رأيتُهُم يُسَكِّتونَني لكنِّي سَكَتُّ فلمَّا انصَرفَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ من صلاتِهِ دعاني ، فبِأبي هو وأمِّي ما رأيتُ معلِّمًا قبلَهُ ولا بعدَهُ ، أحسَنَ تعليمًا منهُ ، واللَّهِ ما ضَربَني ولا كَهَرَني ولا سبَّني ، ولَكِن قالَ: إنَّ صلاتَنا هذِهِ لا يصلحُ فيها شيءٌ من كلامِ النَّاسِ إنَّما هيَ التَّكبيرُ والتَّسبيحُ ، وتلاوةُ القرآنِ. رواه مسلم.
لماذا لا نقيس على هذا الذي لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة؟
ولماذا لا نقيس على الحديث التالي؟
عن يعلى بن أمية أن رجلا أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلي جبة، وعليه أثر خلوق، فقال: يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: (اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك، كما تصنع في حجك) متفق عليه، ولم يأمره بفدية لجهله.
4/ ثم إن علماءنا الأفاضل لم يضيّقوا على الناس، انظر إلى قول ابن رشد الحفيد الذي أورد في الفتوى المنقولة (فمن شبهه بناسي الصلاة ....)، وهو إقرار للآخرين بعدم تشبيهه بناسي الصلاة بمفهوم المخالفة.
5/ وإذا عدنا إلى الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ رواه البخاري، ومسلم.
قال محقق كتاب الكافي في الفقه الحنبلي: يستدل به على صحة الصوم، فإن فيه إشعارا بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه.
فإنه يتحدث صراحة عن إطعام الله وسقياه للعبد، وما يكون مضافاً إلى الله تعالى لا يؤاخذ عليه العبد.
فكيف ومن أين لنا الظن بأن حديث أبي هريرة صريح في رفع الإثم؟
من أين جاءت هذه الصراحة؟
وهل تقوى على صراحة قوله صلى الله عليه وسلم (فليتم صومه)؟
وكيف تقارع صراحة إهداء الله للصائم تخفيضا من صيامه وقوله صلى الله عليه وسلم (فإنما أطعمه الله وسقاه)؟
هل يقوى على رد إطعام الله وسقياه للصائم؟
وكيف يؤمر بإتمام الصوم ثم ندعي عليه صلى الله عليه وسلم قصد رفع الإثم فقط؟
وكيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الصوم ولم يأمر بالقضاء، في تشريع يقتضي التفصيل ووضوح البيان؟
بل ويكفي في هذا الصدد ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحج(ذروني وما تركتكم)، فقد تركنا صلى الله عليه وسلم دون تفصيل ولا إحراج بعد القول(فإنما أطعمه الله وسقاه)، فلماذا نتمحل ما لم يأمر به؟
6/ والعبادات موقوفة على النصوص فكيف نظن تأويل الحديث بعدم دلالته على نفي القضاء؟
أين توجد هذه الدلالة؟
وهل إذا كان عليه القضاء سيكتمه النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشاه صلى الله عليه وسلم، ولا يتأخر البيان عن وقت الحاجة، والحاجة إلى معرفة القضاء من الكفارة من الإجزاء ملحة ماسة، فلا يكتمها حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم لو شرعت.
إن تأويل الحديث بمجرد رفع الإثم مع وجوب القضاء قول الإمام مالك رضي الله عنه ورحمه، مع قول ابن أبي ليلى رحمه الله، خلافا لمعظم القائلين بصريح الحديث.
7/ وكيف نعمل مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) أخرجه ابن حبان، والحاكم. المصرح بالإعفاء من القضاء والكفارة؟
8/ وكيف يقارن العلامة الفاضل أبو عبدالله التلمساني بيانه الحاجة ببيان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (واعلم أن من شرط هذا الاستدلال بيان أن الوقت وقت حاجة للبيان، من حيث يكون التأخير معصية، فلذلك لم نقل نحن بسقوط القضاء عمن أفطر ناسيا)؟ لو كان بيانه صحيحا فقد وقع في اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بتأخير البيان وقت الحاجة، وهذا لا يقال، ولا غرو فإن مثله معرض للصواب والخطأ، والسهو النسيان.
9/ أما القياس على قوله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فهو مفارق، لأن الآية في معرض التكليف بما لا يطاق، وما وقع للصائم سهو وليس تكليفا، وإذا اعتبرناه تكليفا، فالفتوى تكليف بقضاء ما لا يمكن التحرز منه كالنسيان، فالحديث موافق للآية في عدم التكليف بالقضاء الشاق هنا، لا كما تأولها المستدل بها.
10/ نعم القاعدة هي (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) بمعنى رفع الإثم،، لكن حديث أبي هريرة واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، للدلالة على استثناء النبي صلى الله عليه وسلم المفطر بالسهو والخطأ، والواضح هنا هو التصريح، فلو لم يكن تصريحا لأخضعنا الجزء للقاعدة، لكن ماذا نعمل بالتصريح؟ هل نهمله والإعمال أولى من الإهمال في حال التعارض عندما نجد المخرج الشرعي؟
11/ ولا أرى وجها لتأويل الإمام مالك رحمه الله بقصد الصائم المتطوع من الحديث، وهو صريح في مطلق الصائم، فأين التقييد؟
أليس تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز؟
اللهم إلا إذا كان عنده نص حديث كتمه عنا، وحاشا أن يفعل الإمام مالك ذلك.
قال الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح عنوان للبخاري: بَابٌ الصَّائِمُ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا أَيْ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَوْ لَا.
مسْأَلَةُ خِلَافٍ مَشْهُورَةٌ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَعَنْ مَالِكٍ يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
قَالَ عِيَاضٌ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِهِ رَبِيعٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِ مَالِكٍ لَكِنْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ لَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ أَوْ أَوَّلَهُ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ.
خاصة أن عدم وجوب القضاء قول الجمهور.
قال ابن دقيق العيد : ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا، وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات.
قال : وعمدة من لم يوجب القضاء حديث أبي هريرة؛ لأنه أمر بالإتمام، وسمى الذي يتم صوما (أي أن المتم يعتبر صائما)، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية.
وكأنه يشير بهذا إلى قول ابن القصار: إن معنى قوله " فليتم صومه " أي: الذي كان دخل فيه، وليس فيه نفي القضاء.
قال: وقوله" فإنما أطعمه الله وسقاه مما يستدل به على صحة الصوم؛ لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه، فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه.
وعلى كل لا أرى إلا أن سادتنا المالكية يكثرون من الاحتياط مع كثرة تأويل النصوص بما لا يليق بها، وبغير دليل يعضده، خذ مثالا عن ذلك حديثي الأمر بصلاة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة، كيف أولهما المالكية بقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار حالة رجل فقير كي يتصدق الناس عليه، وهذا تأويل بعيد جدا لا دليل له، لمجرد تهييب الناس من انتهاك حرمة الخطبة.
ومع ذلك لا يعني هذا الكلام إباحة تساهل الناس مع حرمة الصيام، ولا مع النسيان، بل ينبغي على المرء مراقبة نفسه، والاحتياط لها كي لا يكثر منه الخطأ والنسيان، وليوطن نفسه، إنما يعني مراعاة الدليل الفقهي في تناول أي مسألة، وضرب التأويل غير الموجه شرعا بدليل واضح عرض الحائط، ولا معنى لاختيار المذهب حكما أمام قول جماهير أهل العلم بالنقل الصحيح الموافق للعقل الصريح، ولا معنى للتشبث بالمذهب أمام قوة الآخرين كي لا يصبح من باب التعصب غير المحمود، ولا يعني التطاول على العلم، بل هو إعمال العقل كما منحه الله تعالى بفهم النصوص وتأويلاتها وتكييفها وأدلتها المعضدة لها، ومناقشة أحكام سادتنا العلماء لها.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم