مفارقات لجنة فتوى تعجيل زكاة الفطر


سأطرح بين أيدي مختصي الفقه الشرعي، وعلمائه الأجلاء، وأساتذته الأكارم ومتابعيه المحترمين، رأيا شخصيا يدور في فلك النصوص الشرعية والقواعد الأصولية والمصالح الإنسانية المستخرجة من المقاصد العلية، غير غالق الباب على النقد وتبادل الرأي في هذه الدائرة المقدسة لتفعيل التنفيذ الصحيح للأحكام تيسيرا على العباد.
فرأيي أعتبره صوابا قد يعتريه الخطأ.
1/ الحمد لله الذي أشهد الأيام على صحة ما كنت أنادي به في كثير من أشهر رمضان منذ أعوام، حين كان معظم أئمتنا المحترمين يلحون على ضرورة إخراج زكاة الفطر بيوم أويومين قبل نهاية الشهر، أوقبيل صلاة العيد، مقسمين الأحكام إلى وقت وجوب، ووقت فضيلة، ووقت إباحة، وغيرها، متناسين مسألة المقصد التشريعي المضاف إلى طهرة الصائم من اللغو والرفث، وهو الإغناء عن السؤال يوم العيد لما ورد عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
ومقصد الإغناء عن السؤال لا يتحقق بإخراجها بيوم أويومين أوقبيل الصلاة فقط، لأن كل عصر وزمن له خصوصياته النفسية والمالية والمادية والاجتماعية والدينية التي تستوجب اجتهادات لاستنباط أحكام خاصة غير منافية للنصوص والقيم والقواعد والأصول، تدور في فلك الفهم السليم، تيسيرا لصور التكافل والتطبيقات الشرعية، ومنها المالك والآخذ.
لكني لا حظت على مخرجات لجنة الفتوى تناقضا مفاده الاستدلال على إباحة إخراجها أوائل شهر رمضان بما ورد عن علي أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك. رواه أبوداود.
قال شارح الحديث صاحب عون المعبود شرح صحيح أبي داود:
يدل على جواز تعجيل الصدقة بعد حصول النصاب قبل تمام الحول، وكذا على جواز تعجيل الفطرة بعد دخول رمضان،، ولا أراه إلا مقايسا الفطرة على الفريضة،، وكان الأولى الاعتبار بالمقصد.
فإن العلماء القدامى الذين رخصوا في تعجيل إخراجها لم يكن عندهم صندوق الزكاة الذي ينوب عن المالك، فكيف تربط الفتوى به، قياسا على أقوال العلماء؟
فهل تقصد الفتوى وضعها في أيدي المحتاجين من أوائل أيام رمضان أم وضعها في صناديق الزكاة؟
وأين هي صناديق الزكاة والمساجد مغلقة؟
فلا يبقى من مقصدها إلا وضعها في أيدي الفقراء والمساكين، وهي لم توضح الأمر بجلاء.
ما يعني تراجعا عن الفتاوى القديمة التي تؤكد على إخراجها قبيل العيد، أوتبيح إخراجها لكن من المالك إلى صندوق الزكاة.
أما القياس على تعجيل إخراج الزكاة المفروضة فلا أراه ذا توافق، بل بالفارق، لأن مقدارها قيمة أوطعاما سيكون أقل بكثير من المفروضة، فكيف يتم قياس الإغناء عليها؟
ثم لماذا يتم اليوم نشر هذا البيان المبيح الذي أتفهم مغزاه الواقعي، لأن لنا إخوانا وأحبابا هم في أمس الحاجة إليها، مع نزول الوباء، ولم يتم التيسير على الناس قبل هذه السنة والإلحاح على عدم الخروج من المذهب رغم أن دواعي التيسير كانت موجودة ومفروضة واقعا؟
وهل انعدمت هذه المقاصد فيما سبق وولدت الآن؟
2/ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد عينها بما ذكر في الأحاديث، بل جعل مطعوما قيمة لآخر في المنصوص، لما ورد عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ..
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْصَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْصَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْصَاعًا مِنْ زَبِيبٍ. أَخْرَجَاهُ.
لأنها كانت غالب المتداول في ذلك الوقت، وهي ما يغتني به المحتاج عن السؤال، ولا يوجد دليل على تخصيصها بها، لذلك قرر كثير من علمائنا الأجلاء قياس القيمة عليها استدلالا من الحديث نفسه، ومنهم عمر بن عبدالعزيز، وجماعة من كبار التابعين مثل الحسن البصري وعطاء، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وهو رواية عن مالك واختاره ابن حزم والبخاري وابن تيمية رحمهم الله جميعا.
لكن كنت أقول منذ أعوام:
لا يتحقق بالغذاء والأكل فقط، بل المحتاجون في هذا الوقت على ضربين:
1/ المحتاج إلى الأكل لأنه معدوم الغذاء، فالضروري هو إغناؤه به، أوبالقيمة المالية التي يقتنيه بها، فيكون فرحه مع المسلمين بما يأكل كما يأكلون كل حسبه بما يكفيه، وهذا يتيح لنا تعجيلها له ليقضي أيام الإفطار في غنى عن موائد الناس، خاصة إذا تهاطلت عليه الزكوات وقسمها على ليالي الشهر.
2/ المحتاج إلى اللباس، لأنه ليس معدوم الأكل وإنما له غذاء الفقير، ولا يستطيع التفريط في قيمة الأكل لشراء ألبسة العيد، وبالتالي فإن إغناءه يكون بما يلبس هو وأولاده يومه فرحا وطربا مع أولاد سائر المسلمين، وهذا لن يتأتى له إلا بتعجيلها قيمة مالية على الأقل بخمسة عشر يوما قبل العيد، كي يتسنى له شراؤها، بما أنه غني عن المطعومات.
وإذ أبارك توسعة اللجنة على نفسها وعلى الشعب بالخروج نوعا ما من ضيق المذهب إلى سعة رجحان أدلة واستنباطات علماء المذاهب الأخرى، فإني أدعو إلى ضرورة بعد النظر وتعميقه وتوسعته الفقهية إلى حدود التطبيق الفعلي للنصوص بواقعية تخدم مقررات المصالح الشرعية للعباد، خاصة إذا رجحت الأدلة نصوصا أوفهما أواستنباطا.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
مع تقبلي أي تعليق أوتعقيب من ذوي العلم وأهل الاختصاص، لإضافة علم ما لم أعلم.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم