أحكام الفقه بين العلم والعواطف.

كم دعونا إلى ضرورة احترام أهل العلم إطلاقا، وذوي التخصص تقييدا، كي تحدد المصطلحات والمفاهيم بشكل مضبوط، دون إفراط ولا تفريط، ودون خلط بين رغبات النفس، ودرجات الزكية، ومطالب الروح العلية، وقيود العلوم الفقهية، وكي يتحقق الانفكاك بين ضوابطها، ومكارم وكرامات الدرجات الروحية.
طرح موضوع فتوى للدكتور علي جمعة بعد استفتائه عن حكم الصيام لمن يفطر على الخمر، فأجاب (حسب الناشر، وحسب خبر على شريط قناة الجزيرة) بصحة الصيام، فأثار حفيظة وتأسف البعض على ما وصلنا إليه، دون تمييز بين موقف شخصي، وحكم علمي.

إنني من الذين يبغضون علي جمعة في الله، لأنه رجل سلطة الاستبداد، ومن علماء البلاط، ومن البطانة السيئة، رجل أيد الانقلاب على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي رحمه الله، يخشى السلطة ربما أكثر من خشيته لله تعالى، أفتى بقطع رقاب إخواننا المعتصمين في ميداني رابعة والنهضة، بقوله (اضرب في المليان).
لكن من الإنصاف، ومن تقوى الله تعالى الامتثال والالتزام بقوله تعالى(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الآية 8 في سورة المائدة.
لا أحب سماعه البتة، لكن المسائل القلبية تختلف عن المسائل العلمية.
الرجل سئل، فأفتى أونقل فتوى مفادها صحة صيام من أفطر على محرم مثل الخمر.
1/ قد لا نبالغ ولا نتجنى إذا توجسنا من نيته سوء، (مع أنه لا يحق لنا شرعا)، وربما أراد إظهار مرونته، وإرضاءه لزبانية السلطة الذين لا يصحون من سكرات الخمور.
2/ تعجبني غيرة الدين عند بعض المنتفضين على هذه الفتوى حبا فيهم لله ولرسوله.
3/ كان على الدكتور علي جمعة التهرب من الإجابة بأسلوب سلس مرن كأن يقول(وماذا تفعل بصحة صيام أنهيته بالخمر؟)، أو(لا علاقة بين الخمر والصيام،، لكن لا يجوز التجني على السنة التي بينت أفضل ما نفطر عليه) ويمر دون إثارة،، وما كان له طرق هذا الموضوع الذي قد يُتذرع به إلى مفاسد أخرى،، مشيرا بشكل خفي إلى العلم الفقهي، متبنيا المحاذير الروحية.
4/ لكن ما لا يعجبني ولا يعجب حتى أساتذة الفقه والعلم المتخصصين تدخل العوام أومن تخصصهم غير الفقه وأدلته وتفاصيلها في مضمون الفتوى، مستهترين بالبعد الفقهي وتنقيح المناط الذي يعلمه متخصصوا أصول الفقه فقط، لأن القوانين والأحكام المربوطة بالدليل والشروط، والأركان، لا تخضع للعواطف والروحانيات وعالم الزهد والورع.
5/ خير الأحكام الفقهية ما خضع للشروط والأركان والملابسات العلمية، وما كان على التفصيل لا على التعميم بالتحريم والإيجاب، وقد كان فقهاؤنا وعلماؤنا رحمهم الله ورضي عنهم يخشون الله تعالى كثيرا من إطلاق عبارات التحريم مستحضرين قوله تعالى(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) النحل 116.
6/ الرجل لم يفتِ بإباحة الإفطار على الخمر، إنما وجَّه فتواه نحو صحة الصيام من عدمها فقط، فلا يجوز التقول عليه بما لم يقله،، ولا تبشيره بمقعد في النار كما فعل بعض أقوياء العاطفة نحو دينهم (معذورين)، لأنه لم يحل الخمر، إنما تورط في فخ أمكن له إمهال السائل حتى يستشير أترابه، وموقفي منه بينته في البدء.
7/ الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه الصحابي يشكو انتهاكه حرمة الصيام بمواقعة زوجته: 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر، والعرق: المكتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ قال: أنا، قال: خذ هذا فتصدَّق به، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك" متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (1936)، ومسلم (1111).
هذا الرجل أهلك نفسه بارتكاب المحرم أثناء الصيام لا بعده، ومع ذلك روى أبوهريرة (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه)، ولم يبوءه مقعده من النار. 
8/ لذلك سأقول كلاما لا أبرر به سلوكه، ولا أبيح به الإفطار على الخمر، لأننا متفقون على المحظور.
هناك تلازم روحي بين حقيقة الصيام من حيث قبوله (وهذا لا يكون إلا لله)، وبين المعاني الروحية له مثل التقوى والإمساك عن المحرمات،،، لكن الصحة والفساد شيء،، والقبول والبطلان شيء آخر.
الصحة يقصد بها العمل الشكلي،، وبراءة الذمة من الواجب.
أما القبول فذلك موكول لله تعالى وحده فقط،، المترتب عليه الأجر والثواب،، أواللوم والعتاب والإثم.
صحة الواجب تعني من الناحية الشكلية الظاهرية العملية أن لا يطلب منه إعادته،،، الصلاة مثلا: إذا أديت بواجباتها وسننها وأركانها فتصح شكلا،، وتبرأ ذمة المصلي من الواجب،، ولا يطلب منه إعادتها مرة ثانية.
ولذلك يصح من الإمام أوالعارف بالشرع الحكم على فعل الواجب أنه صحيح.
أما القبول من عدمه فالله تعالى وحده الكفيل به،، ولذلك يأتي في كثير من أعمالنا دعاء بعضنا لبعض بالقبول، ويكثر في خشية المتقين من عدم قبول أعمالهم رغم أنها على الشكل الصحيح.
لكن الفقه شيء علمي،، أوقل عنه تقني،، فيه مراعاة الجانب الشكلي من صحيح وخطأ،، الذي به تبرأ الذمة من الواجب أم لا،، وهذا موكول لتقييم العلماء والفقهاء،، أما الجانب الروحي المرافق فهو من باب المقبول أوالباطل، وهذا موكول لله تعالى وحده فقط،، لا يمكننا التدخل فيه.
أما هذا الذي يفطر على المحرمات ومنها الخمر، فنؤنبه ونذكِّره بالمقصد من الصيام وهو جانب القربى والتقوى.
ألم نجد في مسائل الفقه كلام العلماء حول بيع المصراة المنهي عنه، وبيع الحاضر للبادي، وتلقي الركبان، والبيع أثناء نداء الجمعة؟ 
ومع ذلك قال غير واحد إن هذه المعاملات صحيحة مع إثم صاحبها، لأن النهي لا ينصب على أركان وشروط وماهية البيع إنما على أمر خارج عنها.
ولماذا لم ننتبه إلى إفطار الكثير من المسلمين بالتبغ (الدخان) منذ عصور، حتى ظهرت فتوى صحة صيام المفطر على الخمر؟ أليس تناول الدخان (التبغ) محرما؟
ليس من ضوابط أحكام الفقه العواطف والشجون تجاه الدين، إنما مردها إلى الدليل النصي أوالاجتهادي بما يصرح أويشير نفيا أوإثباتا.
أنا مستعد أن أشتم المفطر على الخمر، لأنه خالف السنة، والأخلاق، وارتكب الكبيرة، لكن لست مستعدا أن أتقول أوأتجنى على الله بإفساد صيامه وقد أتمه وانتهى منه، ربما بشكل موافق تماما، ولا بإبطاله بغير المقبول عند الله.
فأرجو ممن يتصدى للعلم أن:
1/ يحترم أهله إن لم يكن منهم.
2/ يحترم التخصص إن كان من تخصص آخر.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم