العلم من قيد السلطة إلى حرية المجامع

النوازل أهم ما يستفز الأنامل، ويوخز الأذهان، وينجش الآراء، ويثير القنوت، ومنها نازلة هذا الفيروس في اصطلاح البعض، والوباء في اصطلاح الآخرين.
قد نستبق الغيب برصيد علمي في التاريخ، وقد يطل علينا بما يستثير الهمم لعلاج ظاهرة، أومسايرتها، أوالتعامل معها، بكل الأساليب ومنها الفتوى الشرعية، لأننا مسلمون نوقن أن كل الحياة لابد أن يحكمها الشرع ويحتضن تفاصيلها بأحكامه وقواعده.
إن ما يعيق حركة الفتوى الشرعية، بسير أعرج، يُمَهِّلُ وصولها إلى مضانها، ويأسرها، وضعُها بطانة لقرارات السلطان، ومفاوز التمذهب المغلق، والمفترض أن تكون في المقدمة تقود سيره وإسراءه.
في عهد النظام الاشتراكي السابق كان الرئيس بومدين يقرر والفتوى تختم وتوقع.
ومنه واقع اليوم، الذي هاجم فيه الوباء الناسَ، وحتم علينا إجراءات،، السلطة تقرر، والفتوى تبرر، رغم امتلاكها الرصيد التاريخي للأحداث الذي يمكنها من عملية الاستباق والقيادة بالقياس، للحفاظ على قيمتها وهيبتها بتشاورها مع أهل التخصص العلمي للحادثة، لتنطق بالحكم الشرعي الحر المبني على المعطيات الكافية والأدلة النصية والاجتهادية البعيدة عن الإلزام، يتبعه القرار السياسي،، الذي يترك الأمر صادرا من الدين لا من الحاكم ،، الذي يخضع لسلطة الفتوى.
ومما يكرس حريتها تأسيس المجمعات العلمية الفقهية، لأن الموجود عندنا الآن هو مجالس علمية على مذهب واحد فقط، والرؤية العلمية فيها محدودة ملزمة به، بما فيه الاجتهاد داخله،، لا تأطير لها ولا هيكلة لأغلبها، لا تدوين ولا سجلات للتاريخ تحفظ الأقوال المختلفة ولو المفارقة للراجح، فأغلبها مجالس مفرغة من مقصودها،، كهيئات تبرير،، وقديما قال ابن تيمية (من اعتقد ثم استدلَّ فقد ابتدع)،، على عكس ما نجد في المغرب تطلب السلطة الحاكمة الفتوى من الفقه ثم تنفذ القرار المستخرج منها.
إننا في زمن لا يقبل الاقتصار على المبادرات الفردية، أوالمجالس المذهبية، إذا أردنا منع السلطة من التعامل مع كل ما يتوافق مع توجهاتها الوقتية لتلغيه يوم تستغني عنه.
وقديما دعا الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في ملتقيات كثيرة إلى اجتهادات، منها الاجتهاد الانتقائي وهو ما يتجسد بالمجمعات،، حتى وإن كانت موجودة في بعض الدول المسلمة، لا عندنا.
لابد من الاعتراف بأن واقع بلادنا فرض طرفا آخر وجب ضمه إلى الصف، والإفادة من زاده العلمي قل منه أوكثر، لتصفية الساحة العلمية بأرضية فروع متوافقة. 
فلماذا نبقى مكممي الأفواه، ومكتوفي الأيادي أمام ظاهرة الفتوى الرسمية التي قد تنقلب عليها الفتوى الفردية من ذي علم أيا كان، والتمكن من الغلبة الأدبية؟
كم من مسائل نظر فيها إلى مذاهب أخرى وتم اعتمادها تيسيرا على الناس، لرجحان الأدلة؟
لا مناص لنا في رأيي من التيسير على أهل العلم بهجران التعصب للمذهب وضرورة النظر خارجه، وهو سبيل الالتفات إلى ما يطرحه الطرف الآخر، دون إلغاء فكرة التمذهب لمن أراد.
لابد في رأيي من اجتماع المرجعية الرسمية (المالكية) مع غيرها من الأفراد والأحرار للوصول إلى أحكام اتفاقية بالجمع بين النصوص والقواعد والأصول في المسألة الواحدة، لأنه إذا كان للفقهاء الأربعة منزلة وقوة أدبية عند الشعوب لزهدهم في المناصب الحكومية، فسنقع في عكس خطير ممن اعتمدوا في تحصيل أرزاقهم على الحرية، لتنفلت الأمور بالاستيلاء على الاحترام المعنوي الشعبي.
كما حان الوقت لانسجام مصطبغي الانتساب إلى السنة المبدعين غيرهم مع المرجعية المذهبية المالكية لتوحيد أحكام مختلف المسائل والنوازل والحوادث الجديدة على أسس وأصول شرعية أكبر وأوسع من الضيق المذهبي خدمة للإنسانية، لأن هذا الدين خادم للإنسانية كلها لا للمسلم فقط.
لابد من التحرر من أسر التجافي الفقهي بسبب  الاختلاف الفروع العقدية،، لأن من المفارقات، أن أهل الحق يعملون فرادى متناحرين، وأهل الباطل يعملون جماعات متحدين،، فلنتجنب تجاهل الآخر بسبب قناعاته بفروع عقدية مخالفة.
فالأمة تحتاج إلى حلول شرعية واقعية اجتماعية دائمة ومتغيرة، لا إلى تحديث ثوابت عقدية.
تحتاج إلى تفعيل الجمع بين القواعد والأصول الاجتهادية وإخضاعها بعدها لمحكمة الرؤية المقصدية المسددة، عوض التعصب الفردي أوالمذهبي، لأن هذا العمل لا يمكن لفرد البت فيه بنجاح، ولا للمجالس الرسمية المذهبية، إنما للمجامع الحرة المستقلة.
لأنه يجب التطرق إلى الأصول والقواعد والمقاصد بانضباط وانفتاح كبير واضح،، فهي ذات مراتب،، والمقصد الواحد له ملابسات قد يرجح بعضها على بعض، وهذا لن يتأتى إلا بالمجامع التي أقصدها وأدعو إليها، كي تصبح لها بنوك معلومات تفيد منها لئلا يتكرر البحث في المجالات المتشابهة إذا حدثت.
لقد سمعنا بمسألة مراعاة حفظ النفس من الوباء،، ولو فُعِّلت المجامع المستقلة ما صدر الكلام عن المقام العالي من ذراري التطفل على العلم،،، لكن كذلك لم نر مراعاته من الفقر بسبب المآل الاقتصادي،، من الجهل بسبب التوقف عن الدراسة والعلم،، من المرض أوالموت بسبب تأجيل علاجات لبعض الحالات،، هذا ينبه إليه المجمع الفقهي الذي أقصده. 
نسمع اختلاف صيغة الأذان في الدعوة إلى الصلاة في البيوت، رغم أن المساجد رسمية، وهذا لا يحسمه إلا النقاش العلمي داخل  المجمعات الفقهية.
فتوسيع المدارك والمآخذ والمضان هو ضابط ومضيق ومرجح ومصوب دائرة وملابسات ومتغيرات القواعد والأصول والمقاصد والمنافع والمفاسد.
كان على الأقل في غياب المجمعات الفقهية إنشاء خلية أزمة علمية، تجبر كل المشارب التي لها أتباع يقتدون بها، على الانتساب إليها، فوحدة البلاد أعلى من مجرد خلاف فقهي.
بما سبق وغيره يمكن في تقديري استخراج إجماع مرن بالاستماع المتبادل، والنظر لانقداح قرائح أهل العلم في مجامع حرة مستقلة عن التمسك المذهبي، والسلطة السياسية التي نريدها مستخرجة قراراتها من أحكامها السيدة.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم