بين الكذب وإخفاء الحقيقة.


هذا المقال لا يفهم كنهه إلا بقراءته كله.
كلما يظهر مسؤول على أي قطاع بتصريح حول وضع معين، يكثر استهتار بعض المتابعين، ومنه تصريحات تعني هذه الأيام حصيلة المصابين بوباء كورونا وضحاياه، وبعد متابعتي اللقاء الإعلامي الذي نظمه السيد رئيس الجمهورية يوم الثلاثاء 31 مارس 2020 مساء، اطلعت بعده على مختلف الانطباعات حوله من قبل المعلقين والناقدين، ومنها التي ركزت انتقادها (ولها كل الحرية المحترمة) على إخفائه بعض حقائق الوضع الصحي، وهذا واقع لا مناص من إنكاره، ولا لتبريره، غير مفرقة بين الكذب وإخفاء الحقيقة، فانطبعت في نفسي ضرورة بيانهما،، رغم بعدي عن تأييد الحكام على حساب الشعوب،، إلا أن الحياة والأحداث علمتني كثيرا من التريث والإنصاف ولو مع الخصم والمنافس، فإن ههنا لا يعنيني السلطة بقدر ما يعنيني بيان المسألة.
تعريف مقتضب لهما: الإخفاء هو المبالغة في الستر، والكذب هو قلب الحقيقة.
هناك فرق بين الكذب الذي لا نتقبله ونعتبر صاحبه في عداد المنافقين، وإخفاء الحقيقة أوالتحفظ في إفشائها، لضرورات مقدرة لدى المصرح، الذي قد يصيب في المقدار والتقدير وقد يخطىء.
ودليل ذلك قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)] سورة المائدة.
فهناك أحكام لم يكن من واجب الوقت إظهارها وقت السؤال، لأن كشفها يؤدي إلى حرج عند الكثير، وهذا من إخفاء الحقيقة المباح ولو مؤقتا تبعا لمنهج التدرج في التربية والتشريع.
وقديما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه(ليس كل ما يعرف يقال).
قال الإمام الشاطبي من قبل: «ليس كل علمٍ يُبَث ويُنْشَر، وإنْ كان حقاً».
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ. قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا». رواه مسلم، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.
وفي حديث أنس - رضي الله عنه -قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ» قَالَ معاذ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذا يَتَّكِلُوا» فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ، تَأَثُّما. رواه مسلم، والبخاري.
فإخفاء الحقيقة هنا تجنب للتواكل، والتزام بضرورة التعلق بالله تعالى بالنظر إلى ضعف النفوس البشرية.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعظمُ المسلمينَ في المسلمينَ جُرمًا من سألَ عمّا لم يُحرَّم فحُرِّمَ على الناسِ من أجلِ مسألتِهِ،، رواه البخاري ومسلم.
إخفاء السؤال هو إخفاء لحكم لم يحن أوانه التشريعي بعد، قد يتسبب مظهره في إحراج الأمة.
إخفاء ليلة القدر: لو أن الله تعالى أظهرها لتهاون الناس في بقية ليالي رمضان، مكتفيا بقوله تعالى(خير من ألف شهر).
إخفاء يوم الساعة، أويوم الموت: تجنبا للمفسدة نفسها، وهي تأخير التدين والطاعة إلى حلوله.
إخفاء كل الرؤى أوبعضها: ومنه رؤيا يوسف عليه السلام، ومع ذلك لم يسلم من كيد إخوته بعد انكشاف تقريب أبيه له من دونهم.
فلو أظهر الوالد حبه الزائد لأحد الأولاد على البعض لحدثت فتنة عائلية لذلك لم يكن مناص من إخفاء الحقيقة، وكذا إخفاء تفضيل بعض الزوجات على بعض، إبعادا لمرض الحسد والكيد وغيرهما.
وتتجلى مظاهره في إخفاء الحقائق عند الهيئات من السلطة، والأحزاب والجمعيات والمنظمات والنقابات، والعائلات بين الأزواج، وفي المصائب، والأمراض، وغيرها، فكم من ديبلوماسي يخرج من لقاء رسمي يصرح للصحافة بأقوال ليست كذبا لكن لا حقيقة فيها مما ينتظره الإعلام، (ناقشنا الملفات المشتركة، وكانت وجهات النظر متطابقة، ودرسنا القضايا ذات الاهتمام المشترك، وقضايا التحرر في العالم ،،،،،).
أعرف كثيرا من الأحزاب لا تبوح بشيء لأعضائها ومناضليها، ثم تطالب السلطة بما لم تطالب به نفسها.
والأسرار في التخطيط والتحضير لأي مناسبة أومشاريع تعتبر من أشكال إخفاء الحقيقة، وما أثر (استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان إلا خير دليل).
فإخفاء الحقيقة قد يكون فيه مصلحة إن أدى إفشاؤها إلى أضرار، أومفسدة إن أدى تأخير البيان عن وقته إلى أضرار.
فهو لا يعتبر كذبا إنما نوعا من حسن التصرف إن كان هناك مصلحة من وراء اخفائها، وخبثا مضرا إن نتج ضرر عن إخفائها.
قال الدكتور بول أورباش في كتاب دروس في الإدارة ص:146 (إخفاء الحقيقة عن المريض لمصلحته).
جاء في الموسوعة الفقهية لمحمد رواس قلعجي:
(كإخفاء المظلوم عمن يريد ظلمه، أوإخفاء الأخبار عنه، وإخفاء المال عمن يريد الاستيلاء عليه ظلما، وإخفاء أداة الجريمة عن المجرم، ونحو ذلك.
قد يلجأ إليه لتجنب المبالغة والتهويل، وتجسيم الحقائق، وإضافة بعض القصص، أوالبيانات التى ليس لها أساس من الواقع، وهذا النوع نجده فى أمراض الهيستريا، أوفى الشخصيات التى تتميز بالمبالغة والعواطف السطحية الزائفة، وحب الذات، مع المبالغة فى المظهرية الجوفاء، ومحاولة جذب أنظار الناس إليها، وهذه الشخصية توجد بكثرة فى النساء عن الرجال،، لأن بعض الأفراد لا يتحملون ألم وأذى النفس نتيجة مواجهتهم بالحقيقة.) اهـ
وجدت من يستدل ببعض حكام الغرب ومنهم الألمان والطليان وغيرهم ممن هم على شاكلاتهم في مصارحة شعوبهم ، فلأن المسلمين لم يبلغوا شأو محكمات الشرع والأخلاق، رغم أني لا أحب المقارنة بهم.
فهؤلاء أظهروا بعض الحقائق (مع تحفظي)، لأن شعوبهم شبعانة، واثقة، راشدة، هادئة، تتعامل مع المحلات التجارية بالسلوك السابق نفسه في كل الأحوال، أما الكثيرمن شعبنا فمتلهف، جشع، غير واثق، سفيه، مضطرب، لو كشفنا له سترها لهجم على المحلات وأنهى كل شيء في لحظة ولم يبال معظمهم بالمعسورين، ولا بالعدوى من عدمها بسبب الاكتظاظ والتزاحم.
لهذا يحرم في هذه الحالة إفشاء جميع الحقائق، لأنها تؤدي إلى ضرر أكبر مما نستهدف، ومنه انهيار المناعة الجسدية بسبب التهويل (ولو كان صحيحا)، فسنساهم في انتشار قابلية الداء بالرسائل العصبية، وهذا علم يبحث عنه عند الأخصائيين.
وإن كانت هناك كلمة فلابد أن نوجهها كذلك إلى فخامة الشعب الجزائري ممن أحسن الاحتياطات الصحية بصرامة، فلا تعنيه الأخبار حقيقة أم لا، وممن أساء بعدم الالتزام وهو الذي يُلامُ قبل أن يوجه بنان عتابه للسلطة إن أخفت بعض الحقائق لضرورات ارتأتها سواء أصابت التقدير أوأخطأته.
إلا أن الذي يخفي الحقيقة لا ينبغي أن يخونه التعبير الذي قد يؤول بالكذب.
ولو كنت مكان السيد الرئيس لقلت (نعمل على الحد من الوباء، وعلى توفير كل المستلزمات المادية والبشرية والمؤونة للشعب الجزائري، فلا داعي للتدافع)، ولبررتُ قلة الحصيلة الرسمية بضعف أداء المخابر.
ولا أن يقصد به إخفاء حقوق الناس حين يكون العلم بها ضروريا، لأنه في هذه الحالة يعمل ضد منافع حقيقية للناس لا وهمية، والقاعدة (لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة)
هذه هي نظرتي للمسألة باعتدال ووسطية، سواء أصابت السلطة فنشجعها، أوأخطأت فنسلط عليها سوط اللوم والعتاب والنقد اللاذع إلى أن تعود إلى رشدها.
الأستاذ سعدالدين شراير

أستاذ مادة العلوم الإسلامبة في التعليم الثانوي، متخرج من جامعة الجزائر العاصمة بشهادة ليسانس في العلوم الإسلامية، خبرة 37 سنة تدريس

أحدث أقدم